يقول شيشرون «إن الضمير هو المسرح الرئيس للفضيلة، وفي ذلك المسرح يؤدي المرء دوره في كل الأحوال». وليس الضمير حالة راهنة ومفتعلة، وإنما هي الأثر الداخلي الضارب جذوره في التاريخ.
قبل سقراط تجرع السم، بوازع من ضميره الأخلاقي الذي رفض تعسف الإنسان بحق الإنسان. كما قبل ابن رشد هجوم الخصوم، دافع عن قيمه الدينية، بدافع من ضميره الأخلاقي أيضاً. ودخل فولتير سجن الباستيل، درءاً لخطر الإسفاف الكنسي، وذاق مانديلا السجن لمدة عشرين عاماً، دفاعاً عن حرية وطنه، الذي انتهك حرمته المستعمر الأبيض. ولكن ما هو هذا الضمير؟ في الوعي الإنساني يكمن الاسم لشيء مجسد ملموس، يعيش مع الإنسان ويجاوره في حياته اليومية على مدى العمر، ولكن في المضمون القيمي فهو وازع أخلاقي نابع من الخارج، كما أنه قادم من الداخل، هذا المزيج من طيفي الضمير، يعبر عن كون الإنسان ما هو إلا مزيج من ثقافة متوارثة بيولوجياً وسيكولوجياً، مثلما يتداخل الماء الحلو بالماء المالح ليتكون المحيط. والإنسان هو المحيط الأزلي، الذي بدأت حياته مع الضمير في مكافحة العدوان الخارجي الذي تشكله الطبيعة، وضواري الغابة المتوحشة، ولما برز الوعي بأهمية الأخلاق، كان الضمير هو التجسيد الملائم لوضع حد لعشوائية الأخلاق التي تتبناها إرادة الغابة.

ولكن التطور الثقافي للعنصر البشري، والأبنية الحضارية التي برزت من خلال النشوء والارتقاء للوعي، وظهور العقل كمعادل لأحكام الطبيعة كان البيت الواسع الذي شُيد فيه الضمير غرفة المحكمة، وسار على أساسها يقلب مفاهيم الحياة حسب الظرف التاريخي الذي يمر به البشر، وعلى مر العصور أنتج العقل الضمير الوثني، والضمير الديني، ثم الضمير العلماني، وهو الضمير الذي قلب موازين العقل، وغيَّر من علاقة الإنسان بالمحيط الذي حوله،

ولولا الثورة الفرنسية في عام 1789م لما عرفت الإنسانية عن شيء اسمه منظمة حقوق الإنسان، هذه المنظمة التي عبرت في داخلها عن صحوة الضمير، بما يدل أن هناك ضميراً آخر مغايراً للضمير الحي. ولكن لما جاء فرويد استطاع أن يغرز إبرة التحليل في هذا الجسد اللامرئي ويضع التفسير الحقيقي لمعنى الضمير، عندما اكتشف اللاشعور، واعتبر الأنا هي المكان الحقيقي لما أطلق عليه «الضمير»، ونتج عن هذا الاكتشاف المذهل أن الأنا المتخفي تحت كل هذا الغلاف السميك، هو مصنع الخيال الجم للمترادفات الأخلاقية.