الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العلم ظاهرة جمالية أيضاً.. إغلاق أبواب النهايات يتيح الانتماء إلى أشكال جديدة من البدء

العلم ظاهرة جمالية أيضاً.. إغلاق أبواب النهايات يتيح الانتماء إلى أشكال جديدة من البدء
28 فبراير 2019 03:13

د. أم الزين بنشيخة المسكيني

منذ قرن من الزمن تسارع نسق التقدم العلمي على نحو مذهل، بحيث سجّلت الإنسانية حدوث ثورات علمية متتالية ومتزامنة معاً من الثورة الرقمية والسيبرنيتيقية إلى الثورة الجينيّة، إلى ثورة علم الروبوتات والنانوتكنولوجيا.. ولقد قوبلت هذه الثورات من جهة بعض المفكّرين بصيحات فزع تنبّه إلى أشكال من المخاطر التي قد تهدّد مستقبل الإنسان بسبب هذه التكنولوجيات الجديدة (هانس جوناس وهابرماس ولوك فيري وآخرون).. مثلما قوبلت الحداثة كبراديغم قائم على التقدم العلمي بأشكال عميقة من النقد منذ مدرسة فرنكفورت وصولاً إلى فلاسفة الاختلاف ليوتار ودريدا وفوكو.. لكن ما الذي نتج عن هذا النقد واسع النطاق الذي استهدف أنحاء عدّة، العلوم والتكنولوجيات الحديثة عموماً؟
إنّ ما حدث مشهد للقساوة واضح للعيان على نحو تراجيدي معمّم: لقد انحدر العالم برمّته من جهة السلوكيات الروحيّة العميقة إلى الخرافة والشعوذة، ومن جهة الثقافة اليومية إلى ثقافة التسطيح والتهريج والتصحّر والبروبجندا: إنّه الإنسان الاستهلاكي بلا أيّ ملامح استثنائية. ما الذي يحتاجه هذا النوع الجديد من البشر الذي لا يشبه أيّ نموذج استشرفه العقل البشري ـ فلا هو الإنسان العاقل (أرسطو، ديكارت)، ولا هو الإنسان كغاية في ذاته (كانط)، ولا هو «الإنسان الأسمى» (نيتشه) ـ من أجل ألاّ ينحدر إلى «ما دون الإنسان» (مارلوبونتي)؟ قد نحتاج إذن إلى تهذيب ذائقة جديدة لاختراع قيم ثقافية مغايرة تصالح عقولنا المتعبة بضجيج البروبجندا الدعوية والدعائية مع ثقافة علميّة أصيلة تعيد إلى العلم منزلته المعرفية والوجودية بيننا.

أبواب النهايات
ينبغي علينا أوّلاً أن نغلّق أبواب النهايات من أجل الانتماء إلى أشكال جديدة من البدء: فلقد صار مضرّاً لعقولنا أن نستمرّ في خطابات نهاية الحداثة ونهاية التاريخ ونهاية الإنسان ومخاطر العلم الحديث على هوياتنا المعطوبة.. لأنّ هذا الشكل من السردية لم يعد يناسب إمكانية التفكير الإيجابي بمستقبل أبنائنا. غير أنّ الحاجة إلى بدء جديد إنّما تقتضي استعادة ثقتنا في أهميّة العلم بوصفه أفقاً لتطوير منسوب الذكاء في أوطاننا من جهة وبوصفه طريقاً أساسياً لبناء الإنسان على نحو إيجابي مرّة أخرى. كيف بوسعنا التصالح مع الثقافة العلمية من أجل التحرّر من ثقافة الخرافة التي لا تفعل غير إنتاج كائنات هشّة ضعيفة خائفة من القدر وغير قادرة على الإيمان بالقوى الإيجابية الفاعلة التي بحوزتها؟
لا شيء بوسعه تفكيك ثقافة الخرافة والدجل العمومي الذي ينمو في أوطاننا غير تطوير جمالية عليا للإبداع تعيد إلى المخيّلة إيجابيّتها في اختراع أشكال من الحياة الرمزيّة الجديدة التي يكون فيها العلم أفقاً لتحرير الناس من أوهامهم حول أنفسهم ولتحسين طريقة عيشهم معاً. أي دلالة بوسعنا رسمها لتصوّر جمالي للعلم؟ وكيف يمكن للعلم أن يكون ظاهرة جماليّة؟ لا بدّ أن نشير بدءاً إلى أنّه بعد ظهور براديغم «الفكر المركّب» (العبارة لإدغار موران) ودخول الثقافة المعاصرة حقل المعارف البينيّة أو تعدّد الاختصاصات، لم يعد من الممكن الحديث عن العلم بشكل معزول. وضمن هذا المنظور أنجز ثلّة من المفكّرين المعاصرين ضرباً من التصوّر الجمالي للعلوم والمعارف عموماً انخرط فيه كلّ من باشلار وميشال سار وباديو على أنحاء مختلفة، مجتمعين على «أنّ العلم هو استطيقا الذكاء البشري» (باشلار) وعلى أنّ «الموسيقى هي رحم الاختراع الرياضي» (ميشال سار) وعلى ضرب من الجمع بين «الشعر والرياضيات» مع باديو. وفي الحقيقة يمكننا أن نؤرّخ لهذا النوع من السلوك الفكري منذ الإغريق أنفسهم الذين اقترحوا معنى واسعاً لمفهوم العلم وحيث اقترح أفلاطون فكرة الجمال كأهمّ فكرة بوسعها أن تجعل الحقيقة (العلم) تتجلّى للعيان في العالم المحسوس. ولقد اعتبر الرياضي الكبير فيثاغورس أنّ العالم أعداد وإيقاعات موسيقية، وفي السياق الجمالي للعلم نفسه، أقرّ ليوناردفنشي بضرورة الجمع بين فنّ الرسم وعلوم الهندسة والفلك، وقد كتب فاليري أنّ «الجمال يخرج من أفواه علماء الرياضيات».

الفن والتكنولوجيا
من أجل إرساء ملامح هذا التصور الجمالي للعلم علينا إذن أن نشير أوّلاً إلى أنّه قد تمّ التفريق دوماً بين الاستطيقا والابستمولوجيا حينما يتعلق الأمر بفهم ما تنجزه العلوم وهو تفريق اقترن أساساً بالاعتقاد في ضرورة الفصل بين ما هو عقلاني أي ما تنتجه العلوم وبين ما هو محسوس أي ما تبدعه الفنون. وهو الأمر الذي أنتج موقفين متناقضين حينما يتعلق الأمر بالحديث عن العلاقة بين الفنّ والتكنولوجيا: الأوّل مع الفنّ ضدّ التكنولوجيا والثاني ضدّ الفنّ مع التكنولوجيا. مما أدّى إلى مفارقة شخّصها الروائي الفرنسي غوستاف فلوبار (1823 ـ 1880) تحت راية الإمّية التالية: إمّا أن نتصوّر مستقبل الإنسان في لوحة سوداء بقولنا «لقد تضاءلت منزلة الإنسان الحديث بتحوّله إلى مجرّد مكنة»، وإمّا أن نواصل الإيمان بأنّ «الإنسانية في تقدّم مستمر بفضل العلم». وعليه يكون السؤال الذي ينقذنا من هكذا مفارقة هو التالي: كيف بوسعنا أن نبني تصوّراً جمالياً للعلم مختلفاً عن التصوّر الرومانسي للعبقرية وعن التصور التكنولوجي الحرفي المحض للاختراع العلمي؟ هكذا نجد أنفسنا بين الانغلاق الوضعي على العلم بوصفه «أقصى نقطة قارّة ونهائية في الذكاء البشري» (أوجست كونت) والتصور الرومنسي الذي يجعل الشاعر نبيّاً جديداً للعصور القادمة (نوفاليس، هولدرلين وهيدجر).
لقد أسّس ديدرو (1713 ـ 1784) مع دلمبار (1717 ـ 1783) في موسوعة العلوم والفنون والتقنيات (1755) بوادر هذا المفهوم الجمالي للعلوم، وذلك حينما اعتبر تحت عنوان الفنّ، أنّ «الفنون الليبيرالية بوسعها الاحتفاء بالفنون الميكانيكية من أجل تحريرها من التدنّي الذي سجنت فيه بسبب الأحكام المسبقة». وهذا المفهوم وقع تطويره في ثلاثة معان مختلفة: المعنى الأوّل (مع باشلار) يقترح ضرورة التأسيس لتصور جمالي للمخيّلة العلمية بوصف المخيّلة هي الحقل المشترك للإبداع العلمي والفنّي. والثاني (مع ميشال سار) يقرّ بطريقة جديدة في التأريخ للعلوم تقوم على سردية جمالية تجعل من العالم رواية وسرديّة كبرى للإنسانية الحالية. والثالث (مع باديو) يضع الرياضيات والشعر في قلب الطريق إلى الحقيقة إلى جانب الحبّ والسياسة.

1) شعريّة المخيّلة:
يقترح الفيلسوف الفرنسي المعاصر غاستون باشلار (1884 ـ 1962) تصوّراً جمالياً للفكر العلمي يعيد فيه للعلم منزلته الثقافية بحيث لم يعد العلم كما اعتقد غاليلي «جسداً غريباً عن الثقافة». ومن أجل إنجاز هذا التصور الذي يجمع بين الفنّ والعلم ينهض باشلار بتفكيك ميتافيزيقا الإبداع التقليدية التي تقوم على الفصل بين الحقول الإبداعية بحيث يصير العلم بمثابة «استطيقا للذكاء البشري». وعليه يؤسس باشلار فيما أبعد من الصراع العقيم بين الرومنسية والوضعية «فكراً علمياً جديداً» يقوم على «شعرية المخيّلة». وشعرية المخيّلة لا تستسلم لأنطولوجيا اللغة العفويّة إنّما هي تعيد إلى العلم وجهته الثقافية أي دوره في إنجاز عقل مواطني كوني تحت سقف عقل علمي خلاّق ومخيّلة مبدعة قادرة على إنجاز تغييرات رمزية عميقة في روح الشعوب. و«شعرية المخيّلة» تعني تحديداً أنّ الطابع الشعري متجذّر ضمن طبيعة الأشياء التي يقترح العلم تفسيرها. وانطلاقاً من هذا البعد الشعري للمخيّلة لم يعد من حقّنا أن نعتقد في العلم بوصفه بنية ثابتة إنّما يصير اعتباره بما هو إنشائية جمالية حيّة. وعن هذه المخيّلة الجمالية التي تجمع بين الإبداعين الفنّي والعلمي يكتب باشلار متحدّثاً عن العلوم الذريّة: «أبدا لم تكن المخيّلة أكثر ثراء وحركيّة ولطافة كما هي في البحوث المعاصرة حول المبادئ الذريّة». ويصل إلى الحديث في كتابه «فلسفة الرفض» عن ضرب من «الأحلام الرياضيّة» و«الاستعارات البيداغوجية» الضرورية ضمن حقل البحوث العقلانية للفيزياء المعاصرة.

2) العلم سرديّة كبرى:
وذلك يعني أنّنا بوسعنا حكيه مثل أنواع الحكي الأخرى. وهو ما كتبه ميشال سار قائلاً: «بوسعنا اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى أن نحكي العلم حكياً». أي أنّ العلم بوسعه أن يتحوّل إلى سرديّة جمالية، وتلك هي الطريقة الجديدة التي بوسعنا أن نكتب بها تاريخ العلوم اليوم. وهنا يجري المفكر ميشال سار تحويراً جوهرياً على معنى العلم نفسه: لم يعد العلم يبرهن فقط، بل بوسعه أن يسرد أيضاً. وعليه يمكن للعلم أن يكتب تاريخ العالم بوصفه سردية كبرى. وهنا يقدم لنا ميشال سار تصوراً جمالياً للعلم من خلال مفهوم السرد العلمي الذي صار ممكناً انطلاقاً من إمكانية التأريخ الدقيقة المتاحة اليوم لتاريخ العلوم والأحداث العلمية. وقد بدأ هذا النوع من السردية الجمالية للعلم مع الكاتب الفرنسي جيل فارن (1828 ـ 1905) ضمن رواياته التي جعلت معارف عصره متاحة لجمهور القرّاء والعموم. ويحيل ميشال سار في هذا السياق على ديدرو ودلمبار قائلاً: «لقد اخترع ديدرو مع دلمبار أمراً لافتاً للانتباه: الموسوعة. ولقد جمّعا فيها كلّ علماء عصرهما.. من أجل كتابة معجم.. لكن لقد انتهى الآن ذاك الأمر، إنّ العلم لم يعد ممكناً بوصفه موسوعة، إنّما بوصفه سردية كبرى». وهنا تراهن هذه الجمالية السردية للعلم على ضرورة جعل العلم متاحاً للعموم، من أجل توسيع دائرة المؤمنين به والمنتمين إلى أفقه معاً.

3) العلم يفكّر:
وحينما يفكّر فهو يعبُر حتماً عبر القصيد والحبّ والرياضيّات بوصفها طرقاً للحقيقة في عصر فقد ثقته في إمكانية الحقيقة نفسها. في هذا السياق يقترح الفيلسوف الفرنسي ألان باديو تصوّراً جمالياً طريفاً للعلم يجعل فيه «الرياضيّات فكراً للكينونة المحضة»، أي أنّ العلم الرياضي ليس مجرّد معرفة تجريدية مستقلّة عن بقية أشكال الثقافة والحياة، بل إن «الرياضيات هي الأنطولوجيا في المعنى الدقيق للنموّ اللانهائيّ لما يمكن أن يقال عن الوجود بما موجود». وفي هذا الأفق يعتبر باديو أن ليس ثمّة من فكر قديم أو معاصر بدون اعتبار لما يحدث في علم الرياضيّات في عصر ما. وهو ما أقرّه منذ كتابه الوجود والحدث (1988) حيث اعتبر أنّ اختراع عالم الرياضيات الألماني كانتور (1845 ـ 1918) لنظرية المجموعات القاضية بالقول إنّ الموضوعات الرياضية هي جملة من الكثرات المحضة، هو الحدث الذي أعاد تنضيد الأنطولوجيا نفسها. وهو الأمر الذي ترتّب عليه ضرورة إعادة النظر في العلاقة بين المعرفة والحقيقة. بحيث لم تعد الحقيقة هي «التطابق بين المفاهيم والموضوعات» بل صارت إلى ضرب من الوفاء إلى الحدث. بحيث يكون الحدث ضرباً من «الجِدّة الجذريّة» التي تحدث لنا إزاء حقيقة علميّة أو تجربة حبّ أو قصيد أو حدث سياسي كبير.

في الختام:
ـ إنّ كل ما يحدث في بعض أوطاننا من شيطنة للعلم تحت راية نقد الحداثة لم ينتج غير الكوارث: التزمّت الديني والانغلاق الهووي والصراع الطائفي.
ـ من أجل استعادة ثقتنا في العلم بما هو الطريق الأساسي لتطوير منسوب الذكاء لدى الإنسان في أوطاننا، نحتاج إلى تعميق الذائقة الجماليّة التي تعيد إلينا ثقتنا بالجمال رغم صفاقة القبح بيننا.
- إنّ شعباً بلا مبدعين هو شعب بلا مستقبل، وإنّ أمّة لا تحتفي بعلمائها ومبدعيها سرعان ما تتحوّل إلى مجرّد ذاكرة بلا تاريخ.
ـ علينا أن نراهن على ثقافة علميّة مواطنيّة من أجل تحرير العقول من وصاية الدجّالين والمهرّجين والمتزمّتين وأعداء العقلانيّة عموماً.
ـ وحدها ثقافة جماليّة تعيد إلى المخيّلة قدرتها على إبداع أشكال أفضل من الحياة بوسعها أن تساعدنا على احتفاء إيجابيّ بكل أشكال الاختراع والإبداع العلمي والفنّي في ديارنا.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©