الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقافة أوروبا لم تستطع احتواء بربريتها

ثقافة أوروبا لم تستطع احتواء بربريتها
27 مارس 2008 03:06
أصدرت دار توبقال في الدار البيضاء الترجمة العربية الأولى لكتاب من أحدث كتب المفكر والفيلسوف الفرنسي الذائع الصيت إدغار موران ''ثقافة أوروبا وبربريتها''· وكان هذا الكتاب قد ظهر في طبعته الفرنسية الأولى عن دار النشر الباريسية العريقة بايار· وهو في الأصل، مجموعة من المحاضرات كان إدغار موران قد ألقاها في رحاب مكتبة فرانسوا ميتران الوطنية، كما نشرها صاحبها على صفحات مجلات فكرية عريقة· وعبر هذه المحاضرات يحاول إدغار موران فضح بربرية أوروبا وتسليط الأضواء عليها وتقديم لمحة مختصرة عن أنتروبولوجية البربرية الإنسانية· وهو إذ يقول في بداية محاضرته الأولى ''بربرية أوروبية'': ''حاولت أن أوضح أن فكرة الإنسان المفكر، والإنسان الصانع، والإنسان الاقتصادي أو المنتج ظلت ناقصة· فالإنسان المفكر ذو الذهن العقلاني يمكن أن يكون في الوقت نفسه قادرا على الهذيان والحمق· والإنسان الصانع من جهته، الذي يتقن صنع واستعمال الأدوات التقنية، كان قادرا أيضا منذ بدايات الإنسانية على إنتاج أساطير لا تحصى· ويعتبر الإنسان الاقتصادي الذي يعرف انطلاقا من مصلحته الخاصة، إنسان الاستهلاك الذي تطرق له هويزينكا منذ عدة عقود خلت، أي إنسان اللعب والإنفاق والتبذير· يجب أن ندمج هذه الخصائص المتناقضة في بعضها البعض ونربط فيما بينها· ففي أصل ما سوف نعتبره البربرية الإنسانية يوجد بالطبع جانب ''الحمق'' المنتج للهذيان والحقد والازدراء، ولما كان اليونانيون يسمونه ''هيبرس''، أي الإفراط والمغالاة، ومن هذا المنطلق يعتقد إدغار موران أن ترياق ''الحمق'' يوجد في ''الفكر، في العقل، لكن لا يمكن تعريف العقلانية بكيفية ملتبسة· يوضح المفكر إدغار موران هذه الإشكالية بقوله: نعتقد في غالب الأحيان أننا داخل العقلانية بينما لا نكون في واقع الأمر إلا داخل العقلنة· أي داخل نسق منطقي بشكل تام لكنه يفتقد للأساس التجريبي الذي يسمح بتبريره· ونعرف أنه بإمكان العقلنة أن تخدم الهوى، بل وتقود إلى الهذيان· يوجد هذيان خاص بالعقلانية المعقلنة''· تقنيات وأفكار يعتقد ادغار موران أن ''التقنيات التي أنتجها الإنسان، مثلها في ذلك مثل الأفكار، ترتد ضده· وتعرض الأزمنة الحديثة أمامنا تقنية تنفلت من عقالها بتخلصها من الإنسانية المنتجة لها· نتصرف مثل سحرة في طور التدريب· إضافة إلى ذلك، تجلب التقنية نفسها بربريتها الخاصة، بربرية الحساب الخالص، البارد الجليدي الذي يجهل الوقائع العاطفية المميزة للبشر''· أما الإنسان الاستهلاك، فالملاحظ أن له ألعاباً قاسية مثل ألعاب السيرك أو مصارعة الثيران رغم أن العديد من الألعاب لا تتصف بالبربرية· وأخيرا، فالإنسان الاقتصادي عند ادغار موران يجعل المصلحة الاقتصادية فوق كل اعتبار- يميل إلى تبني سلوكات متمركزة حول الأنا، والتي تتجاهل الغير وتنمي انطلاقا من هذه الخاصية بربريتها الخاصة· وهكذا نلاحظ بروز ممكنات واحتمالات البربرية افتراضيا في جميع السمات المميزة لنوعنا البشري· لكن الاحتمالات الافتراضية للبربرية ليست هي نفسها في المجتمعات السحيقة في القدم والمجتمعات التاريخية (ص7)''· معتبراً أن ''المجتمعات الأولى'' انتشرت في جميع أنحاء المعمورة منذ آلاف السنين· وأنتجت تنوعاً هائلاً في اللغات والثقافات والموسيقى والطقوس والآلهة· وتشترك جميعها في الخاصية التالية: فهي مجتمعات صغيرة تتكون من بعض مئات الأفراد تعاطوا للصيد وجني الثمار· إنها مجتمعات مكتفية بذاتها لا تحتاج لغزو أراضي مجتمع آخر· وخبرت بكل تأكيد حروبا محلية وربما اغتيالات أيضا''· ليست لهذه المجتمعات -حسب المفكر إدغار موران- أية صلة تذكر بالمجتمعات السحيقة في القدم المنبثقة عن ذلك التحول الرائع الذي يحتمل أنه شرع في الخروج للوجود منذ ثمانية آلاف سنة في الشرق الأوسط في حوض الأندوس بالصين، ثم في المكسيك في سلسلة جبال الأند· الحضارة والبربرية وفضلاً عن ذلك، يرى إدغار موران أن المجتمعات الكبرى تتميز بتطور حضري لا مثيل له في الماضي، فلقد شكلت مدن كبرى تتجمع فيها ساكنة متنوعة وطبقات مختلفة تقوم على سيطرة الأسياد والاستعباد المعمم· وفي قاع هذه المجتمعات السكنية وسراديبها ينمو الانحراف والجريمة· أما في المجتمعات السحيقة في القدم، والتي تتميز بقلة عدد أفرادها، فأغلب هؤلاء في رأيه- يندمجون في حياة الجماعة، وبالتالي سيكون التواجد في الهامش استثناء· كان يسيطر فيها نوع من الأنا الأعلى الجماعي، إضافة إلى عامل أساسي آخر وهو أنها كانت تنتظم وتحكم من خلال أسطورة الجد المشترك الذي كان يشجع رابطة الأخوة بين جميع الأعضاء''· ليست البربرية، كما يرى إدغار موران ''مجرد عنصر يرافق الحضارة، وإنما هي جزء لا يتجزأ منها''· مشدداً على أن ''الحضارة تولد البربرية، وبالخصوص انطلاقا من الغزو والسيطرة''· وهو يرى أن ''الغزو الروماني مثلا، كان من أكثر أشكال الغزو بربرية في العصر القديم بأكمله، نهب كورنثيا في اليونان، حصار نوم انسيا في اسبانيا، القضاء التام على قرطاج، إلخ''· قارئ إدغار موران في هذا الكتاب المهم سيعرف أن النازية التي اعتبرها إدغار موران ''منتوجا كارثيا للبربرية الأوروبية، ووجدت مصدرها في الأمة الأوروبية الأكثر ثقافة· إذن، لم يتمكن الشعراء الكبار مثل جوته، والموسيقيين الكبار مثل ''بيتهوفن''، والتقاليد الديمقراطية الموجودة قبل الحرب العالمية الأولى من احتواء البربرية· مشدداً على أن هذا الحدث أدهش الأذهان في غالب الأحيان، لكن لا يجدر التوقف كثيرا عنده· على الأقل، ليس بالشكل الذي ينسينا أنه إذا ولدت الستالينية والفاشية والنازية من رحم الحضارة، بما في ذلك من إنتاجاتها السامية، فإنها لم تتولد إلا عن الظروف التاريخية المحددة· إنها بالأساس نتائج الحرب العالمية الأولى·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©