الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ليونارد كوهين: الكتابة مثل الدب

ليونارد كوهين: الكتابة مثل الدب
10 يناير 2019 04:18

محمد قنور

كانت الموسيقى والشعر والمسرح مواده الدراسية المفضّلة في المدرسة، فعُرفَ بنشاطه المتواصل في المسرح. وبعدما تعلّم العزف إلى القيثارة على يد صديق إسباني، علمه عزف بعض مقطوعات الفلامنكو، شكّل فرقة موسيقية في حيّه وأسماها (Buckskin Boys). ونسبَ كوهين حبه للموسيقى إلى والدته، حيث قال ذات مقابلة صحفية: «كانت أمّي تغني في كل أنحاء البيتِ، وقد لامس صوتها وجداني».
توفّي والد ليونارد تاركاً الصّبي وعمره تسعة أعوام فقط. لكن، كوهين لم يتعرض لكبوات ومعاناة كثيرة كالتي يستشفها قارئ أشعاره ومستمع أغانيه الحزينة بصوته الروحي الرنان. وعندما كان في سن المراهقة، أصبح مهووساً بالتنويم المغنطيسي، حيث علّم نفسه كيف يروض الحيوانات. فكان في معظم شبابه نشيطاً في مجتمعه، على غرار بروزه كشاعر وفنان وهيبي بين أقرانه، حيثُ كان يقرأ شعره في الملاهي والحدائق، وقد صارت بعض قصائده الأولى من أشهر أغانيه.

الشاعر والروائي
في دراسته في جامعة مكغيل، وسّع اهتمامه بالشعر والأدب، وكان الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا شاعره المفضل حتى أنه منح اسم لوركا لابنته المزدادة عام 1972، كما تأثر بويليام باتلر ييتس ووالت وايتمان وهنري ميلر وشكسبير ولورد بايرون والرومي. وهكذا، اكتسب أسلوبه الشعري والغنائي الخاص، الذي أسماه النُّقاد بالأسلوب الميثو - رومانسي (Mytho-romantic).
تطورت أفكار كوهين الأدبية في حقبة انبثاق «جيل البيتْ»، وعلى الرغم من إعجابه بجاك كرواك وألن غينسبرغ، إلا أن مذهب التلقائية ذاك لم يجذبه أبداً. فقال لاحقاً: «هذا لم ينجح معي أبداً. فقد كانت أفكاري الأولى متحيّزة وأكثر رومانسية، بيدَ أني عشقت كتاباتهم».
أصدرَ كوهين أول مجموعة شعرية له سنة 1956 بعنوان «دعنا نتشبّهُ بالأساطير». ونشر كتابه الثاني «عُلبة توابل الأرض» 1961، وساعدَ الكتاب هذا كوهين على الحصول على تقديرٍ نقدي باعتباره صوتاً جديداً في الشعر الكندي، كما قال الناقد روبرت ريفر آنذاك: «إن كوهين أهم صوت شاب في شِعر كندا الناطقة باللغة الإنجليزية».
انتقل كوهين إلى جزيرة هيدرا اليونانية في أوائل الستينيات، واستأجر بيتاً إلى جانب حبيبته مريان إهلين، ليتفرّغَ للكتابة. ثم نشرَ مجموعته الشعرية الثالثة الساخرة «زهورٌ لأجل هتلر» 1964، وروايتين «اللُّعبة المفضّلة» 1963، و«أجمل الخاسرون» 1966، والتي علّقَ عليها أحد النقاد قائلاً: «إن جيمس جويس لم يمتْ، إنه لا يزال حياً في كندا باسم ليونارد كوهين.» وفي نفسه العام، أصدرَ كتابه الشعري الرابع «طُفيليّات الجنّة»، ليختفي بعد ذلك عن المشهد الأدبي لمدة فاقت العقد من الزمن، حيث تفرّغ للغناء.
في عام 1978، ظهر كوهين الشاعر مجدداً بكتابه الخامس «وفاة رجل سيّدة». ثم، تلاه بمجموعة أخرى بعنوان «كِتَاب الرّحمة» 1984، وقد أثّرت الثقافة العبرية ومذهب الزّن في قصائده الخمسين، وفاز عن هذا الكتاب بجائزة الرابطة الكندية لكتّاب الشعر. وبعد سنوات، نشر كتاب «موسيقى غريبة: قصائد وأغاني مختارة» 1993، ثم انزوى في ديْرٍ في إحدى غابات كاليفورنيا مختفياً عن المشهد الفني. وبعد عودته في بداية الألفية الثانية، نشر مجموعة قصائد بعنوان «كتاب الاشتيّاق» سنة 2006، وحملَ الكتاب بين دفّتيهِ العديد من القصائد والرسومات الخاصة بكوهين. وقد حقّق الكتاب هذا أكبر نسبة مبيعات في كندا. ونشر في موقعه على «الإنترنت» القصيدة الأصلية لأغنية «ألف قبلة عميقة»، والتي لم يسبق أن ضمّها في كتاب من قبل.
علّقَ كوهين على عملية الكتابة قائلاً: «إنها مثل دب يبحثُ عن خلية نحل أو مخبأ للعسل، أتعثّرُ في الطريق وأنهضُ، والأمر هذا لذيذٌ ومرعبٌ. إن الكتابة ليست سلسة بل محرجة أحيانا ومؤلمة أحياناً أخرى».
ولو أن كوهين كان يغيب عن نشر كتب شعرية، إلا أن الشعر لم يتركه أبداً. فالشعر يوجد في أغانيه، مثل أغنية «ألكساندرا تُغادر»، وهي عبارة عن تناصّ مع قصيدة «الإله يتخلّى عن أنتوني» للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس. وظل كوهين ينشر نصوصا شعرية في الصحافة من بينها و«ذاهب إلى البيت»، وقصيدة «الحفلة انتهت»، و«سيّر طريقكَ». وقد توجّت رحلته الأدبية بالحصول على جائزة أمير أستورياس للأدب في عام 2011، والتي حصل عليها الروائي فيليب روث كذلك.

من الشعر إلى الغناء
ذهبَ كوهين إلى الولايات المتحدة في أواخر الستينيات ليركّزَ على الغناء والموسيقى، فأطلق أول ألبوم له «أغاني ليونارد كوهين» عام 1967، والذي جلب له شهرة عالمية خصوصاً بأغنية «سوزان»، التي جاءت كقصيدة في كتابه الشعري عام 1966. أعجبَ بوب ديلان بكوهين، ووصفه بكاتب الأغاني رقم واحد في وقته، قائلاً: «بالنسبة لي، إن ألحان كوهين إلى جانب كلماته، عظيمة وعبقرية، ويملك أسلوبا بصفة سماوية رفيعة في الكتابة والغناء. ولا أحدَ سواه يفعل هذا في الموسيقى الحديثة؛ لأنه شاعر».
تبدو حياة كوهين ساحرة ومحكوم عليها بالحزن، فأسلوبه الشعري لم يختلف عن أدائه الغنائي، إذ ظلّ يركز على المواضيع التي تتحسس جهة القلب بموسيقى سامية وأداء عاطفي متميّز وكلمات عميقة. وهكذا بدا كوهين رجلاً يعيش نوعاً من العزلة الوجودية كئيباً ومتذمراً، وكان الفن بكل أشكاله فرصته لتفريغ كم هائل من المعاناة والرغبة والأحلام والحب من خلال أغاني شعرية ومواضيع تواكب متغيرات الحياة اليومية وتربطها بالماضي، كما في أغنية «هاليلويا».

هاليلويا كوهين
كتب كوهين أكثر من ثمانين مقطعاً من نص «هاليلويا»، خلال ثلاثين عاماً، لكنه غنّى القليل منه فقط، فأصدر الأغنية لأول مرة في العام 1984. وحققت شعبية كبيرة، بعدما أعاد غنائها جيف باكلي. ثم أعاد غنائها أزيد من مائتي فنان بمختلف اللغات عبر العالم.
وقد صارت الأغنية موضوع كتاب «المقدّس أو المنكسر: ليونارد كوهين وجيف باكلي والنّجاح غير المألوف لهاليلويا» 2012، الذي أصدره الناقد الفني والصحفي الأمريكي ألن لايت عن حياة وشعر وموسيقى ليونارد كوهين. وأشادت الناقدة السينمائية والأدبية جانيت ماسلين بالكتاب ومحتوى الأغنية، مشيرة إلى «أن كوهين قضى سنوات طويلة في كتابة الأغنية، والتي صارت الأكثر أداءً في التاريخ الموسيقي العالمي».

شعر وحياة ما بعد الوفاة
توفي ليونارد كوهين عام 2016. وبعد عامين، أصدرَ ابنه آدم كتاب والده الأخير بعنوان «الشُّعلة»، ويضم الكتاب آخر قصائد كان ليونارد قد اعتكف على كتابتها إلى جانب رسومات خاصة وبعض النصوص التي كتبت سابقا ولم تنشر من قبل.
ويقول آدم: «هذا كل شيء خاص بوالدي، لقد كان مهتمّاً بالحفاظ على سحر سيرته». وكان ليونارد كوهين يكتب دائماً في عزلة مكرساً وقته للوصول إلى مستوى شبه مستحيل من الدقة، وحامل ما يسميه ابنه «نظاماً رهبانياً». عانى ليونارد من اللوكيميا في آخر سنوات حياته، ولَمَّحَ إلى موته الوشيك في ألبومه الأخير «تريدها أظلم»، حيث غنى أغنيات تدلّ على النهاية مثل «أغادر الطّاولة» و«خرجتُ من اللُّعبة».
«كان والدي رجلاً باحثاً عن المعنى، في مهمة دائمة»، يقولُ آدم، واصفاً والده بالمتفاني حتى النهاية. وقد عثر آدم على بقايا والده مخبأة في أدراج مكتبه وأوراق في جيوب ملابسه، حتى أنه وجد بعضها في ثلاجة والده المعطّلة.
هل كان ليونارد كوهين موسيقياً أم شاعراً؟ فيلسوفاً يتعمّدُ التشاؤم أو يستخدمُ نوعاً من الكوميديا الكئيبة؟ زيرَ نساء؟ أو باحث عميق عن الجمال؟ أو زاهد؟ يهودي أم بوذي؟ هندوسي أم ناسك؟ بتتبّعِ كلماته ومسار حياته، ندرك أن ليونارد كوهين كان كل هذه الأشياء على مدى 82 عاماً من الفن والعطاء.

لم آتِ لأضلّلكَ*
الآن وقد سمعتُ عن وترٍ سرّي
عزفَ عليهِ داوود، وقد سُرّ الربُّ لذلكَ
لكنّك أنت لا تهتمُّ بالموسيقى، أليس كذلكَ؟
هذا ما حدثَ، الرّابع والخامس..
ثمّ يسقطُ اليافع، ويرتقي الهرِمُ
والملك المذهول ينْظِمُ هاليلويا
***
كان إيمانكَ قوياً، ولكنّك احتجتَ لبرهانٍ
عندما رأيتَها تستحمُّ على السّطحِ
بعثركَ جمالها تحتَ ضوء القمرِ،
وربطتكَ إلى كرسي المطبخِ
وكسّرت تاجكَ، وقطّعت شعركَ
ومن خلال شفتيكَ، رسمت الهاليلويا
***
تقولُ إنّي أخذتُ الاسم بالباطلِ،
لكني، لا أعرفُ ما هو هذا الاسم
ولو عرفتُ حسنا ماذا يعني لك هذا؟
هناكَ تأجّجٌ للضّوءِ في كل كلمةٍ
ولا يهمُّ أيّهما قد سمعتَ
الهاليلويا المقدّسة أو المنكسرة
***
قمتُ بأفضل ما لديَ، ولم يكف
لم أستطع الشّعور، فحاولتُ التحسّس
قلتُ الحقيقة، ولم آتِ لأضلّلكَ
ولو أنَّ كل شيء خاطئ
سأقفُ أمام سيّد الأغنية
بلا شيء على لساني من غير هاليلويا
.................................................
* مقاطع من «هاليلويا»

شحّاذ قذرٌ يباركُ ما يحدثُ للقلبِ*
كنت دائماً أعمل بثباتٍ
لكني، أبداً، لم أسمي ذلك فنا
فقط، كان يُبدّدُ كآبتي
عندما ألتقي بيسوع يقرأ لماركس
وواثقٌ، ذلك يخمدُ ناري الصّغيرة
لكنها، ظلّت مشرقة كشرارة الموت،
فاذهب واخبر الشاب المسيح
عن ما يحدثُ للقلبِ
***
كنتُ أبيع مجوهرات مقدّسة
وكنتُ متفوّقا في عملي،
امتلكتُ قطّة في المطبخِ
وفهدا مرقّطا في الفناءِ،
وفي سجنِ الموهوبين
كنت دمِثاً معّ الحارسِ
لذلك لم أُلزم بالإدلاءِ بشهادةٍ
عن ما يحدثُ للقلبِ
***
الآن للملاك كمانٌ
وللشّيطان قيثارةٌ
وكل نفس تشبه سمكة الأنشوفة
وكل عقل يشبه سمكة القرش،
لقد شرّعتُ كل النوافذ
لكن البيت.. البيت مظلمٌ
فقط «قل عمي!» ببساطةٍ
عن ما يحدثُ للقلبِ
***
كنت دائماً أعملُ بثباتٍ
لكني، أبدا لم أسمّي ذلك فنّا
لقد كان العبيدُ هناكَ
حيثُ صُفّدَ المطربون بالسّلاسل وأحرقوا
حالما اعوجّ قوس العدل،
ولمّا خرجَ الجرحى في مسيرةٍ
فقدتُ وَظيفتي دفاعاً
عن ما يحدثُ للقلبِ
***
درستُ مع شّحاذٍ
لقد كان قذِراً وخائفاً
من مخالب النّساءِ الوافرةِ
ففشلَ في الاستهانة بهنّ،
لا أسطورة هنا ولا عِبرة
ولا تغنّي قُبّرة المروجِ هنا
فقط شحّاذ قذرٌ، يباركُ
ما يحدثُ للقلبِ
.................................................
* مقاطع من نص: «يحدث للقلب»

«أُصلّي طالباً الصمود»*
أنا أصلي طالباً الصمود
الآن أنا شيخٌ
أحيّي السّقم
والبرد

أنا أصلّي طالباً الصُّمود
أثناء الليلِ
لتحمّل العبءِ
وجعله خفيفاً

أنا أصلّي طالباً الصمود
في الوقت
عندما يأتي الشّقاء
ويبدأُ في التّصاعدِ

أنا أصلّي طالباً الصُّمود
في نهاية المطافِ -
لرؤيةِ الموتِ وهو قادمٌ
مثلَ صديقٍ

* (آخر ما كتبه كوهين قيدَ حياته)

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©