الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعر الذي رأى القاتل "يطلق النار على باب القصيدة".. سركون بولص شاعر بلا أسلاف

الشاعر الذي رأى القاتل "يطلق النار على باب القصيدة".. سركون بولص شاعر بلا أسلاف
15 أغسطس 2018 20:22

هل كان يُخيّل للشاعر العراقي أن أعماله الشعرية ستصدر تباعاً بعد رحيله، وأن كل الترجمات التي أنجزها خلال مساره، والتي رافقت إبداعه الشعري، ستصدر أيضاً حاملة آثار ذائقته الفريدة، وثقافته التي جعلته يرافق حركة الشعر العالمي عن كثب؟ هذا الشاعر الذي عاش الشعر مثلما كتبه، وكانت حياته حياة ارتحال في أقاصي العالم، اكتملت أعماله أخيراً، وخرجت من عتمة الأدراج والفوضى التي أغرقتها سنوات طويلة لتبلغ ستة عشر كتاباً بين الإبداع والترجمة والنصوص والمقالات. وقد ضمت هذه الأعمال كتاباً يحتوي على معظم حواراته الصحفية المهمة التي تفي في ثناياها بياناته الشعرية، وآراءه، ونظرياته التي لم يقيض له يوما أن يكتبها مباشرة. ويمكن هنا فعلاً توجيه تحية إلى الشاعر العراقي خالد المعالي صاحب دار الجمل، الذي قضى أشهراً طويلة يبحث عن قصائد صديقه وينقب في الصحف والمجلات ومحفوظات الأصدقاء لئلا يدع نصاً يفوته.

معروف أن سركون بولص أصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 1985 وهو في الحادية والأربعين من عمره، وكان عنوانها «الوصول إلى مدينة أين». وبدت تلك المجموعة لدى صدورها ناضجة كل النضج، ورسخت معالم التجربة الشعرية التي خاضها الشاعر في منفاه الأميركي. إلا أن القصائد التي ضمتها لم تكن قصائد الشاعر الأولى، بل حصيلة مرحلة الثمانينيات التي كان انتهى إليها لحينه. وأعقب الشاعر تلك المجموعة الأولى بثلاث مجموعات صدرت متتالية، وضمت قصائده التي توالت خلال سنوات. أما قصائده الأولى التي تحمل سمة البدايات، فظلت طي بعض المجلات والصحف التي نشرها فيها، بدءاً من الستينيات، ومنها «شعر» و«مواقف» و«النقطة» وسواها. إلا أن صدور ديوانه «سيرة ناقصة: قصائد أولى» حديثاً ضمن أعماله الكاملة قلب المعادلة، وأكد أن سركون كتب كثيراً من القصائد في مطلع حياته، بل خلال فتوته. هذا العنوان اختاره الناشر مصراً على عبارة «قصائد أولى»، نظراً إلى أن بعضها ينتمي فعلاً إلى البدايات التي لا يرضى عنها غالباً معظم الشعراء ومنهم بولص الذي تجاهل قصداً أو عن غير قصد هذه القصائد، رغم أن بعضها يفصح عن موهبة شاعر قادم سيكون له موقعه الفريد.

سرّ القصائد الأولى
قد يكون إغفال الشاعر قصائده الأولى التي كونت بداياته اللافتة في حينها أحدث حالاً من الإرباك في ذاكرة قرائه، وأسهم في بعثرة مراحله التي اجتازها ليصل إلى ما وصل إليه. وكان من الصعب دوماً تأريخ مساره الشعري تبعاً لعدم انتظام كتبه وقصائده المختلفة. ولعل مجموعته التي ادعى أنها هي الأولى وصدرت بعد تأخر طال قرابة ربع قرن، حملت عنواناً استعاره الشاعر من جلال الدين الرومي المتصوف الفارسي المعروف وهو: «إذا كنت نائما في مركب نوح» (1989 دار الجمل). حينذاك ثبت في ظن الجميع، نقاداً وقراء، أن القصائد التي حملتها هذه المجموعة هي الأولى حقاً. غير أن من يعرف سركون بولص الذي لا يليق به إلا لقب «الشاعر البوهيمي» يدرك سر الفوضى واللامبالاة اللتين اعترتا حياته شخصاً وشاعراً. ولم يفاجئ الشاعر قراءه وأصدقاءه حين أصدر أولى مجموعاته في الأربعين من عمره، فهم لم ينتظروا أصلاً أن يقدم الشاعر على خطوة مماثلة. والغريب أنه أصدرها في أثينا وليس في عاصمة عربية، وتحديداً عن دار «النار»، حين كان يعمل في ترجمة روايات شعبية من الإنجليزية إلى العربية. وإن كان التأخر في نشر نتاج البدايات يسيء في أحيان غالبة إلى الشاعر، فإن قصائد بولص المتأخرة عن النشر لم تسئ إليه كثيراً، لكنها لم تستطع أن تتخطى «وطأة» الزمن. ويكفي أن يقارن القارئ بين القصائد الأولى والقصائد اللاحقة ليكتشف أن القصائد الأولى لم تنج من حكم التاريخ الشعري الخاص، وقد بدا سلبياً بعض السلبية. لكن القصائد الأولى هذه تشكل مدخلاً لا بد من ولوجه للوصول إلى عالم الشاعر وإلى أسرار تجربته الشعرية. ففي هذه القصائد تكمن الأسس الأولى التي قام عليها نتاج الشاعر وفيها أيضاً تكمن العلامات الأولى لخصائصه الشعرية التي اتسم بها.
بات للشاعر إذاً، ديوانان أولان أو باكورتان تضمان القصائد التي كتبها في بغداد قبيل مجيئه إلى بيروت، وفي بيروت قبيل سفره إلى أميركا، والتي كان يقال إنها سقطت في عتمة الذاكرة وفي غبار المجلات والصحف، وكذلك قصائده التي سماها الأولى أيضاً، والتي كتبها في مطلع منفاه الأميركي، بدءاً من العام 1969. وفي تلك القصائد يذكر الشاعر واحدة نشرها في بيروت في العام 1968 عنوانها «سكين الحلاج»، وعليها عاتبه الشاعر يوسف الخال ناصحاً إياه أن يترك الصوفية لأربابها وينفتح على العصر. ومنذ ذاك الحين هجر بولص الصوفية التي تجتذب عادة الشعراء في مستهل حياتهم واستسلم لصوفية أخرى هي صوفية الحواس كما أدركها في نتاج شعراء «البيت» الأميركيين.
الخال وأدونيس و«البيت»
اللافت أن سركون بولص الذي يعد شاعراً بلا آباء، والذي كان سباقاً في تقديم شعر الحداثة الأميركية، أهدى مجموعته «الأولى» إلى الشاعرين: يوسف الخال وأدونيس، مسمياً الأول «الأب» والثاني «سيد الهجرة في أقاليم النهار والليل». لكن إهداء المجموعة إليهما لن يكون انصياعاً لهما شعرياً ولا اعترافاً بأبوتهما. فهو لم ينثن عن خيانة تلك الأبوة، مبتعداً عن رمزية يوسف الخال ونزعته الخلاصية وعن تجربة أدونيس ونزعته الصوفية والفلسفية. وكان الشاعر وجد أبوته الحقيقية في شعراء «البيت» من أمثال ألن غينسبرغ وغاري سنايدر ومايكل مكلور، ولكن مع تمرس عميق في الشعر العربي الحديث، كما تجلى في الحركة الأولى (السياب، الملائكة، البياتي)، وفي الحركة الثانية التي أطلقتها مجلة «شعر»، علاوة على تضلعه من الشعر العربي القديم والنهضوي. كان بولص بلا شك أول من قدم شعراء هذا الجيل الأميركي عربياً، فترجم لهم وكتب عنهم قبل هجرته إلى أميركا في مجلة «شعر» (خريف 1968). وخلال إقامته في أميركا لم يستطع أن يتحاشى أثر هؤلاء الشعراء (وسواهم) عليه، فبدت بعض قصائده (ولا سيما الطويلة) تنهج نهجهم، سواء في انفتاحها على الناحية «السفلية» من العالم، أم في رفضها العالم الواقعي واستسلامها لإغراءات المخيلة واللاوعي والحلم والكابوس والهذيان. ولم يكن شعراء «البيت» غرباء عن الثورة السوريالية، كما يعترف ألن غينسبرغ نفسه، ولا عن «جحيم» رامبو ولا عن جنون أنطونان آرتو. وعبر هؤلاء الشعراء استطاع سركون أن يكتشف «العالم الجديد» (مثلما يسمي أميركا في إحدى قصائده) في صوره الحقيقية والمأسوية، إلا أن الشاعر العراقي المغترب والمتسكع لم يتوقف طبعاً عند هؤلاء الشعراء فقط، فثقافته الشعرية غدت عميقة وشاملة، وما لبث في قصائده اللاحقة أن تخطى آثارهم ليكتب قصائده الخاصة التي كانت صورة عنه وعن حياته المضطربة والهادئة في آنٍ واحد، الداخلية والبوهيمية، الحلمية والمشرعة على المصادفات. ونظراً إلى إقامته الطويلة والنهائية في أميركا أضحى سركون بولص شاعراً عربياً وعالمياً. فمفرداته ومعجمه وصوره أصبحت شبه كوسموبوليتية، وتحررت لغته الشعرية من أسر الفصاحة العربية والبلاغة والبيان، وبات من الصعب ربطه بأي سلف من الشعراء العرب. ويعترف الشاعر نفسه بالصدمة التي أحدثتها ثقافة «العالم الجديد» في حياته وكتابته، فكاد بعد عامين على وصوله إلى أميركا، أن يهجر اللغة العربية التي ما كانت لتستوعب التجربة الجديدة بسبب صرامتها وقداستها ولانغلاقها على نفسها أمام وقع الحياة المعاصرة. وعلى نقيض من الشعراء المغتربين (جبران وسواه) الذين حملوا معهم تراثهم الشرقي والعربي، وحافظوا عليه، شرع سركون بولص في خيانة تراثه خيانة جميلة وشعرية من غير أن يتنكر لجذوره، ومن غير أن يهجر لغته الأم ليكتب بالإنجليزية مثلما فعل سواه. لكنه كان عالميا أكثر مما كانه بعض الذين كتبوا بالإنجليزية من غير أن يتخلوا عن مضمونهم الشرقي أو العربي. ولعل انفتاحه على الثورات الثقافية والفنية العالمية ساعده في تخطي انتمائه العربي وفي منح تجربته ولغته سمة العالمية. ويكفي أن نقرأ ترجماته الشعرية التي ضمها كتاب «رقائم لروح الكون»، الصادر حديثاً، لندرك كم أن خريطته الشعرية كانت شاسعة. فالمختارات الضخمة ضمت قصائد من كافة العصور واللغات نقلها طبعاً عن الإنجليزية.

أثر الشاعر
صحيح أن سركون بولص كان بلا أسلاف في الشعر العربي، لكنه نعم بأخلاف له في الأجيال الشعرية العربية التي أعقبته، بل إن أثره بدا واضحاً على بعض الشعراء الجدد والشبان، وهم عبره تعرفوا على الشعر الأميركي وعلى معالمه وأعلامه. ووجد هؤلاء في قصائد سركون حافزاً على هجر الفصاحة والتمرد على رهبة اللغة العربية وسطوتها. وشجعتهم قصائده على الانفتاح على ما لم يعهده الشعر العربي من شؤون صغيرة وعابرة وهموم يومية وسواها. فالشعر لم يبق مع سركون أسير هالته النبوية ولم يبق الشاعر يمثل الصوت الصارخ الداعي إلى الإصلاح ولا الضمير الجماعي. أصبح الشاعر فرداً وشخصاً مثيل الغريب الذي لا يملك حتى صوته، وصنو «المتسكع» الذي ضجر من الإقامة وراح يسافر من دون أن يصل إلى مكان، بل من دون أن يصل إلا إلى «مدينة أين». هكذا، يقول الشاعر في إحدى قصائده: «سافر حتى يتصاعد الدخان من البوصلة». والسفر في مفرداته المختلفة يمثل هاجساً من هواجس الشاعر منذ بداياته. يتجلى السفر بوضوح كموضوع وحالة وهو سفر في بعديه؛ الخارجي والداخلي، سفر في المكان وسفر في الروح والمخيلة، سفر عبثي حيناً لا يملك غاية أو أهدافاً، وسفر تخييلي يلغي مفهوم الزمان ومفهوم المكان. يقول الشاعر في إحدى قصائده واصفاً الشاعر - المسافر: «الشاعر يمضي حياته في البحث عن مفتاح، يتبين له أنه لا يصلح لبابه، لذلك يمضي حياته من جديد في البحث عن باب يصلح للمفتاح الذي وجده». ويقول في قصيدة أخرى واصفاً حالة انتفاء الزمن: «عندما وصلت كانت قد مرت ألف سنة على رحيلي».

قصائد تجريبية
لا تقتصر قصائد سركون بولص على نوع دون نوع آخر، ولا تتبنى أسلوباً ما وتقع تحت وطأته، ولا تنحصر ضمن اتجاه محدد أو ثابت. فهي قصائد ذات طابع تجريبي، قصائد تجمع بين أنواع شتى وأساليب، قصائد مشرعة على الصدف اللغوية وعلى المفاجآت التي تحدث عنها السورياليون، والتي تحل على الشاعر حين يستسلم لأحلامه ورغباته. لكن القصائد لا تنثني في أحيان عن مواجهة الواقع ومجابهة الأنا والذات ساعية إلى هجاء العالم والعادات، ساخرة بألم من سيرة الشاعر نفسه ومحتجة كل الاحتجاج على الحياة المستحيلة والصعبة. لكن سركون بولص سرعان ما يهجر صراعه مع الواقع مستسلماً للهذر والهذيان لـ «يهلوس» أبياته حتى الصباح في «مهرجان اللغة الصاخب»، ويرى القاتل من نافذته «يطلق النار مرات متلاحقة على باب القصيدة».
لا يولي سركون بولص اللغة اعتناء كبيراً ولا يهتم بفصاحتها وبلاغتها، بل هو يهشمها ويحطم سطوتها وأسطوريتها جاعلاً لغته قريبة من منابت «البلاغة اليومية». واللغة تفقد لديه قدسيتها ورهبتها تبعاً لكونها لغة الحياة والواقع، لغة الحلم والمخيلة. ويجاهر الشاعر أنه عندما يكاد ينسى العربية يغمض عينيه ويحلم مستحضراً المعجم من الذاكرة في رأسه. وفي بعض القصائد الطويلة يستخدم الشاعر الأرقام والخطوط والرسوم ليعبر من خلالها عما لا تعبر عنه اللغة. ولعل هذه الأشكال البصرية المعتمدة ترسخ الناحية الاختبارية في قصائده، وتمنحها طابع البحث عن لغة جديدة، «عامة» و«خاصة».
أصبحت قراءة الأعمال الكاملة لسركون بولص متاحة بعد صدورها في كتب متتالية، ولم تعد قراءته كما كانت من قبل معكوسة أو متداخلة. إنها العودة الحقيقية لشاعر كبير، لا يزال أثره محفوراً بوضوح في ذاكرة الشعر والأجيال.

وفاء «المعالي»
بصدور أعماله الكاملة، شعراً ومقالات وحوارات وترجمات، تكتمل صورة الشاعر العراقي سركون بولص، ويقع عليها ضوء جديد عبر قصائده الأولى التي لم تنشر سابقاً في ديوان.
بهذا السلوك الوفي للشعر والإبداع والصداقة، يستعيد الشاعر خالد المعالي صاحب دار الجمل صديقه سركون بولص، يخرج بعض ميراثه من عتمة الأدراج والفوضى التي أغرقتها سنوات طويلة.
قضى المعالي شهوراً طويلة يبحث عن قصائد صديقه، وينقب في الصحف والمجلات ومحفوظات الأصدقاء، لئلا يدع نصاً يفوته، ليهدينا في النهاية، قراءً ونقاداً وشعراء ومبدعين، صورة الشاعر الكاملة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©