الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ركوب البحر كان الأخطر قبل أن يستولي الإنسان على أجواز الفضاء.. أنواء «الأوديسة»

ركوب البحر كان الأخطر قبل أن يستولي الإنسان على أجواز الفضاء.. أنواء «الأوديسة»
18 أكتوبر 2018 02:13

حنا عبود

لا نجرؤ على القول إن الأوديسة أول ملحمة بحرية، فقبلها قصة «الجزة الذهبية» التي يقوم بطلها جاسون برحلة بحرية للحصول من بلاد الكولخيس على الجزة العجائبية التي تشفي المرضى وتحيي الموتى.
وقد سعى أبولونيوس الروديسي إلى تقليد هومر فنظم «الأرغونوتيكا» صوّر فيها أعظم مغامرة يونانية بقيادة جاسون، وهي ملحمة تأخرت حتى العصر الهيليني، وكتبها في الإسكندرية، وعرضها على جهابذة الإغريق في هذه المدرسة.
ولكننا نقول بكل جرأة، إنها الملحمة البحرية النموذجية ومنذ ذلك الوقت وحتى أيام حنا مينه وغابرييل غارسيا ماركيز، والروايات الكثيرة والمتنوعة عن المغامرات البحرية، لم تنقطع، كيف وثلاثة أرباع المسكونة تسكنها المياه وتغلفها الرياح! وكل راكب للبحر يعاني الهول، ويكافح الريح والموج، وربما كانت ثروة بوسيدون، إله البحر، أكثر حتى من ثروة أخيه هاديس، رب العالم السفلي، فركوب البحر كان الأخطر، قبل أن يستولي الإنسان على أجواز الفضاء.

رياح الأوديسة
إن تأثير الأوديسة كبير جداً على الأدب البحري، فقد استفاد منها فرجيل في ملحمته «الإنياذة» كما استفاد منها أبولونيوس عندما أعاد صياغة قصة السفينة الشهيرة «الأرغو» في ملحمته «الأرغونوتيكا»، وكثر الذين كتبوا في أدب البحر في العصور الوسطى، وقبل أن تظهر السفن البخارية والذرية وحاملات الطائرات، لا تكاد تحصى قصص القراصنة، مثل سيرة «الحية» لها بداية وليس لها نهاية.
ولا إحصاء لروايات البحر منذ «روبنسون كروزو» لديفو، و«جزيرة الكنز» لستيفنسون، ناهيك عن قصص القرصان.
ونظن أن «موبي ديك» لهرمان ملفيل أشهر من أن نشير إليها، وكذلك «الشيخ والبحر» لهمنغواي، و«قصة بحار غريق» لماركيز...
واشتهر حنا مينه بأنه «الروائي البحار» لما لديه من ذخيرة في مصطلحات الموانئ والسفن والإبحار...والكثير من القصص البحرية، حتى قصص القرصان التي طغت في إحدى الفترات طغياناً جعلها نموذجاً لمدة طويلة في السينما العالمية...إنما تستهدي بالملحمة البحرية، فكل رواية لا بد من أن تضع أمام السفينة الصعوبات البحرية الكثيرة من جهة والمتنوعة من جهة أخرى، ولا بد أن يبتكر الروائي بديلاً عن «سكيلا» و«خاريبديس» بطريقة أو بأخرى، فلا يجوز أن تمخر سفينة عباب البحار من دون متاعب ومصاعب وأخطار وأهوال من البحر والبر، وممن يجوب البحر والبرّ، وإلا سقطت الحاجة إلى كتابة رواية بحرية...

الوطن والغربة
على أن في «الأوديسة» شيئاً آخر واضحاً كل الوضوح، وهو حب الوطن، والإصرار على العودة مهما كانت الحياة الحالية في الغربة ماتعة يتوافر فيها كل ما يشتهيه المغترب.
في الإلياذة يقدم هكتور خلاصة للشعور الوطني وضرورة التضحية من أجل الوطن، وفي الأوديسة يعطينا أوديسيوس مثالاً لا أجمل ولا أروع عن الغربة والشوق والحنين إلى الوطن، فلم يكن بطلنا بحاجة إلى شيء في جزيرة كاليبسو، إلا أنه ظل متعلقاً بوطنه إيثاكا، وهو يعلم مسبقاً كم سيكابد من صعوبات ومخاطر كبيرة جداً تهدد حياته.
مغريات كثيرة عرضت عليه، فأبى سوى العودة.
وعودة أوديسيوس كانت صعبة مثل عودة منيلاوس، ولكنها لم تكن مثل عودة أغاممنون ومعه ابنة ملك طروادة، الصبية كاسندرا، المتنبئة التي لو صدقوا نبوءاتها لما جرى ما جرى.
وفي حوض الحمام كان مصير أغاممنون ينتظره، بينما تغلب أوديسيوس على خاطبي زوجته، فأباد جميع من في قاعة القصر من الخاطبين، لا لأنهم أحبوا جمال بنيلوبي، بل لأن الطمع يدفعهم والشراهة تقودهم.
وعندما تعرض عليه المغريات في الجزيرة البعيدة في البحر المخيف، وتجري المقارنة بينها وبين المصاعب، لا يقدم البطل أي حجة، بل يكتفي بالإصرار على العودة، فالوطن، وإن جار على المواطن، تبقى له جاذبيته التي كثرت تفاسيرها، من غير العثور على برهان مقنع...
الوطن حجة قائمة بذاتها، والتعلق به لا يحتاج إلى تفسير.
ولا نظن أن هناك أثراً أدبياً سبق الأوديسة إلى هذا الشوق والحنين إلى الأوطان، فقدمت، من جملة ما قدمت، نموذجاً من النماذج الكبرى التي صاغها الأدب في فجر تكوينه، وهو نموذج التعلق بالوطن، كأن هناك سحراً يجذب المرء إلى وطنه، من غير أن يدرك المشتاق منابع شوقه سوى صورة الوطن.

الكاهن والشاعر
من أعظم المشاهد التي يعثر عليها القارئ عندما يوقع أوديسيوس المجزرة في خاطبي زوجته، مشهد رجل الدين والشاعر، وقد تضرع الاثنان حتى يعفو أوديسيوس عنهما، إلا أنه عفا عن الشاعر وقتل رجل الدين.
ولو انتبهنا قليلاً لرأينا أن الموقف من الشاعر لم يختلف بين تليماك وأبيه أوديسيوس، فمنذ النشيد الأول تنهى بنيلوبي الشاعر عن إنشاد عودة الإغريق عدا زوجها طبعاً تحزن وتطلب منه الكف والانتقال إلى أناشيد من نوع آخر، ولكن ابنها تليماك يقول لها:
«أماه دعي الشاعر يغني ما في عقله، فالشعراء غير مسؤولين عن المصائب التي ينشدونها، ليسوا هم، بل زيوس هو المسؤول، والذي يرسل الفرح أو الترح على البشرية وفقاً لمزاجه.
ويجب ألا يكون هناك شعور بالانتقام ضد هذا الذي ينشد قصة العودة البائسة للدانائيين، لأن الناس يحبون آخر الأناشيد الأكثر دفئاً.
فاضبطي عقلك وتحملي، إن أوديسيوس ليس الوحيد الذي لم يعد من طروادة، ولكن الكثيرين ضلوا مثله.
عودي إلى داخل البيت واشغلي نفسك بواجباتك اليومية، بنولك ومغزلك...»
هذا الرأي في الشاعر والشعر ظهر في النشيد الأول.
وعندما يقابل أوديسيوس الشاعر في نشيد ما قبل الأخير وهو على رأي معظم النقاد النشيد الأخير يعفو عنه للسبب ذاته، بينما لا يعفو عن رجل الدين لأنه منافق ودائماً يثير الفتنة.
وهذا الرأي يعكس نموذجاً من أكبر النماذج الأدبية في البشرية، فدائماً يتساهل الناس مع الشاعر، بينما يحملون رجال الدين المسؤولية، وإن لم يكونوا حقاً مدانين، فقد ارتبط رجال الدين بالسمعة السيئة منذ قديم الزمن، وارتبط الشعراء بالسمعة العطرة منذ قديم الزمن أيضاً.

وحدة الموضوع
للأثر الفني سمة عامة يسمونها وحدة الموضوع، ففي مقدور الكاتب أن يخلط ما يشاء من الموضوعات، ولكنه يدفع أثره إلى الفشل، فقد تبين بالتجارب أن وحدة الموضوع مثلى في التأثير على السامع والقارئ.
والأوديسة من أعظم ملاحم العالم في وحدة الموضوع، فلنقرأ هذه المقاطع من النشيد السابع عشر، عندما يشاهد أوديسيوس كلبه أرغوس:
بينما كانا يتحدثان، كان هناك كلب نائم رفع رأسه وشنّف أذنيه ونصبهما.
إنه أرغوس، الذي رباه أوديسيوس قبل أن يرحل إلى طروادة، ولكنه لم يعمل شيئاً بعده.
في الأيام القديمة اعتاد أن يأخذه الشبّان عندما يخرجون إلى صيد الماعز البري أو الغزلان أو الأرانب، ولكن الآن بعد أن ذهب سيده استلقى مهجوراً على أكوام من روث البغال والأبقار أمام أبواب الإسطبل حتى يأتي الرجال ليأخذوا السماد إلى الحقل الكبير، وكان القمل يملأ جلده.
حالما رأى أوديسيوس وقف هناك، ونصب أذنيه ولوّح بذيله، ولكنه لم يقترب من سيده.
عندما رأى أوديسيوس الكلب في الجانب الآخر من الباحة، ذرف دمعتين من عينيه دون أن يراه يومايوس وقال:
«يومايوس، أي كلب نبيل يستلقي على كومة السماد: هيكله رائع، إنه يبدو مثل صديق عندما ينظر بعينيه، أو أنه واحد من تلك الكلاب التي تأتي تتسوّل على المأدبة، والتي يحتفظ بها سيدها للعرض فقط؟».أجاب يومايوس: «هذا الكلب يخص سيده الذي مات في ديار الغربة.
لو كان كما تركه سيده أوديسيوس عندما غادر إلى طروادة، لعرض عليك قوته العظيمة وسرعته الكبيرة.
فما من حيوان بري في الغابة أمكنه الإفلات منه عندما كان يطارده.
ولكنه الآن وقع في الظروف العصيبة، لأن سيده مات ومضى، وهنا النسوة لا يعتنين به.
إن الخدم لا يقومون بعملهم إن لم يكن سيدهم فوق رأسهم، لأن زيوس يأخذ نصف الطيبة من الرجل الذي يجعله عبداً». بعدما تكلم دخل الأبنية إلى الغرفة التي كان فيها الخاطبون، ولكن أرغوس مات حالما تعرّف على سيّده.
إن وحدة الموضع «الوطن والغربة» تفعل فعلها حتى في الحيوانات، فبعد أن غاب أوديسيوس عن وطنه عاش كلبه عيشة مختلفة كل الاختلاف، ولم يحتمل فرحة اللقيا بمعلمه فنفق على الفور.
إننا نعثر على وحدة الموضوع في كل شيء، في بنيلوبي وتليماك والمربية، بل نجدها في الراعيين، المخلص منهم والجاحد، فراعي الخنازير يخون أمانة معلمه، بينما راعي القطيع يحتفظ بالذكرى العطرة لمعلمه ملك الجزيرة الغائب.
وحتى المربية تعرفه عندما تغسل له قدميه من ندبة أصابته أثناء رحلة صيد...
إنها وحدة أتقن المؤلف استخدامها في القلب والأطراف، في بنيلوبي وفي الكلب المخلص، في المربية وفي الراعيين، في تليماك والخاطبين...
إن وحدة الموضوع في «الشيخ والبحر» ليست أفعل من وحدة هذه الملحمة العالمية، التي غدت من النماذج الأدبية الكبرى.
«أوليس» جيمس جويس أراد جيمس جويس، وهو الصديق الحميم لكارل غوستاف يونغ، أن يثبت أن الشعور الجمعي ثابت، وأن النماذج البشرية تبقى كما هي إلى الأبد، ولكنها تتلوّن بما أضيف إلى العصر من عوامل مؤثرة، فيبقى الثابت ثابتاً، وأما المتغيّر فإنه يخضع للظروف.
فأخذ ملحمة «الأوديسة» وطبقها على العصر الحديث، ليجيب عن الأسئلة الكبرى: هل تبقى النماذج كما هي؟ هل يمكن في العصر الحديث لبنيلوبي أن تبقى مخلصة وفية أكثر من عشرين سنة؟ ثم ما معنى «الإخلاص» وكيف ينفذ؟ وهل يمكن أن تبقى مخاطر البحار كما كانت أيام أوليس (أوديسيوس) بعد السفن الضخمة الهائلة والبوارج وحاملات الطائرات؟ هل يمكن أن تحمل خشبةٌ بطلَ الرواية وترمي به على الشاطئ، وأطواق النجاة باتت متقنة تبقي على مستخدمها حياً عشرات الأسابيع؟ وهل يمكن للسيكلوب أن يفترس الرجال بعد ظهور الأسلحة النارية؟...
كل هذا وضعه جويس في الحسبان عندما أنتج روايته «أوليس» المذهلة التي شغلت العالم، والتي يمكن أن نسميها «أوديسيوس الجديد».
ملاحظة أخيرة: جاء في النشيد الأخير (وهو النشيد 24) أن مصالحة جرت بين البطل وأشباح الخاطبين الذي صرعهم، ويرجح النقاد أنه مضاف، للتدليل أن الأخلاق اليونانية لم تعد ترضى بهذه الطريقة في الانتقام.

الكشكش

درجت العادة أن يزين ثوب العروس بكشاكش حتى يزداد رونقه وجماله، وأي موضوع يمكن أن ينسج له المؤلف كشكشاً يزينه، وفي الأوديسة كشكش، بدا بسيطاً أول الأمر، ولكن تبيّن أنه مصدر لكل إبداع لاحق في الأدب اليوناني. فنحن نمر بهذا الكشكش من دون انتباه أول الأمر، ثم نربط الأمور ببعضها فإذا نحن أمام لوحة متكاملة، فقصة رفاق البطل نجدها مروية، أحياناً بشيء من الإسهاب، وأحياناً بشيء من الاقتضاب، فتكتمل صورة الإغريق بعد دمار طروادة. وقد وجد الشعراء بيدراً من الحبوب القابلة للنماء، فتناولوا ما جاء فيها في مسرحياتهم الرائعة، فبرز أسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس، فعرفنا الشيء الكثير عن أغاممنون وأورست وإلكترا وكليتمنسترا وأندروماك وهيكوبي وكاسندرا... حتى أمكننا اعتبار الأوديسة، المصدر الأول لمعظم المسرحيات اليونانية القديمة. وحتى هبوط الآلهة في آلة لحل المعضلة في المسرحيات مرجعه هومر في ملحمتيه.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©