الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المشهد التشكيلي عبر مسيرة «الاتحاد».. ولادة ظلال الدهشة

المشهد التشكيلي عبر مسيرة «الاتحاد».. ولادة ظلال الدهشة
28 نوفمبر 2019 03:29

إبراهيم الملا

لم ينفصل المشهد التشكيلي في الإمارات، عن مشهديات موازية لفنون أخرى مثل المسرح والموسيقى والسينما والدراما التلفزيونية والإذاعية التي ظلت تؤسس لنفسها حضوراً مستقلاً ومرافقاً لتطور البنية الثقافية والفكرية والإبداعية التي شهدها المكان منذ قيام دولة الاتحاد وإلى اليوم، هذا التطور الذي يعود فضله إلى القادة المؤسسين لفكرة الاتحاد ذاته، كهدف ومصير ورؤية، والذي تمظهرت حوله وفي أنساقه كل التوجهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الطموحة والساعية لبناء الإنسان قبل العمران، وتكريس ثورة المعرفة، قبل ثورة «الكونكريت»، حيث كانت رغبة حكّام الإمارات المؤسسين، وفي مقدمتهم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، موجهة وبشكل أساس نحو استدامة التنمية البشرية وترجمتها إلى واقع حيّ وملموس، وكانت الانطلاقة مجسّدة بداية في الحاضنة التعليمية التي كانت المناهج الفنية فيها هي صوت وصدى الذائقة الجمالية منذ فترة السبعينيات من القرن الماضي، فقد شهدت هذه الفترة بالذات مخاضا فنيا مهّدت له التطبيقات والمعارف التشكيلية البسيطة في المدارس النظامية أثناء المرحلة المبكرة لتشييدها، من خلال اللوحة والمنحوتة وفنون الخط وغيرها، وهي التجارب التي تبلورت بعد ذلك في الكليات والمعاهد والجامعات، ثم تأكد حضورها وتأثيرها مع تأسيس جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في العام 1980 على أيدي مجموعة من الأسماء الواعدة والموهوبة التي حملت على عاتقها مسؤولية الريادة الفنية استنادا لعدّة أكاديمية من جهة، وعدة ذاتية قوامها الحماس المتقدّ والهواية الباحثة عن شكلها الاحترافي من جهة ثانية.
ساهم هؤلاء الرواد في نشأة الحراك الفني المحلي قبل أربعة عقود عندما كان الأمر أشبه بالمغامرة الساعية لتحريك الساكن، وتأسيس ثقافة بصرية جديدة، ونشر رؤية جمالية لم تكن سائدة، في ظل طغيان الثقافة الشفهية والتدوينية، ويضم السجل الذهبي لمؤسسي الفن التشكيلي في الإمارات مجموعة لامعة من الأسماء نذكر منها: عبدالقادر الريّس، وعبدالرحيم سالم، والراحل حسن شريف، والدكتورة نجاة مكي، والدكتور محمد يوسف، ومحمد القصّاب، وعبيد سرور، وسالم جوهر، وفاطمة لوتاه، وأحمد الأنصاري، ومنى الخاجة، وعبدالرحمن زينل، والفنان الراحل محمد بولحية.
وجاء بعدهم جيل جديد استكمل التأسيس الأولي بتأسيس آخر قائم على التوازن في الخيارات الفنية بين تأثيرات الجيل السابق، وبين استقلالية البحث والتجريب في مدارات الفنون المعاصرة ونذكر من هؤلاء: الدكتورة كريمة الشوملي، ومحمد كاظم، وعلي العبدان، وحسين شريف، وخليل عبدالواحد، ومحمد أحمد إبراهيم، وعبدالله السعدي، وموسى الحليان، وأحمد الشريف، ومحمد الأستاذ، وابتسام عبدالعزيز.
وعبّر هؤلاء الفنانون في أعمالهم عن قوس واسع ومتعدد من الأساليب والخامات والمواد والأنماط التعبيرية التي استخدمها وانتهجها كل فنان على حدة، اعتمادا على اللون واللوحة الكلاسيكية تارة، وعلى النحت والتجسيم والأشكال المفاهيمية المعاصرة تارة أخرى، وكان لهم دور مهم في ولادة شرارة الدهشة، وانبعاث وهج البدايات لذاكرة الفن التشكيلي المحلي، حيث كانت نتاجاتهم متنوعة ومسكونة باستكشاف طرائق مستقلة ورؤى متفردة تضع كل فنان في مسار توليفي خاص سيكون هو منبع وبوصلة أسلوبه الفني في المراحل التالية، وسط حوار تفاعلي يضيء على الماضي، ويفتح نافذة للبحث في المستقبل.

اكتشاف المراحل والمسارات
بالنسبة للجيل الجديد من الفنانين الإماراتيين الشباب فإن التعرف على أعمال الفنانين الأوائل يتيح فرصة لاكتشاف المراحل والمسارات والتغيرات التي طرأت على الفن البصري في الإمارات على مدار أربعة عقود، ومن خلال صيغ ثنائية، تبدو ظاهريا بأنها متعارضة ومتناثرة، لكن الطبيعية «التأريخية» لأعمالهم تتجاوز ما يمكن أن نسميه هنا «الانتقائية الصعبة» التي مزجت أضدادا من التفسيرات الفنية، وآلفت بين انزياحات معرفية مشاكسة، ولكنها وفي بعدها البانورامي تبدو وكأنها ترصد التطور الطبيعي للتجربة الفنية الإماراتية بشكل عام، ولتطور الشكل والمحتوى في التجربة الفردية لكل فنان ضمن سيرورة البحث المتواصل عن القيمة المضافة، والنضج الأسلوبي للعمل الفني في مراحله اللاحقة.
وكان لإعلان دولة الاتحاد أثر ملموس في نهضة الفن التشكيلي في الإمارات، حيث أصبح هناك كيان موحّد يرعى الفنان الذي يملك مشروعا فنيا واضحا ومؤهلا للتميز والتطور، وأصبحت هناك مؤسسات أهلية ومنصات حكومية وأكاديمية داعمة للفنون البصرية في أغلب إمارات الدولة، ونذكر منها المؤسسات الأولى التي رافقت المسيرة المبكرة للاتحاد بكل أسئلته وتحدياته، مثل جامعة الإمارات في مدينة العين، ووزارة التربية والتعليم، ودائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، ومرسم المريجة، والنادي الثقافي العربي بالشارقة، وظهر بعدها المجمع الثقافي بأبوظبي، وقسم الفنون والخط والزخرفة بالدائرة الثقافية في الشارقة، بجانب وزارة الثقافة وتنمية المعرفة، ومؤسسة الشارقة للفنون، وهيئة دبي للثقافة والفنون، وهيئة الشارقة للمتاحف، وأكاديمية الفنون الجميلة والتصميم بالشارقة، وهيئة الثقافة والسياحة بأبوظبي، ومجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، وكليات التقنية، وجامعة زايد، ودبي للتصميم، ومرايا القصباء بالشارقة، وغيرها من الحاضنات الكبرى التي اهتمت بنشر الذائقة الفنية والثقافة الجمالية في المجتمع، وبين أوساط الطلبة والمهتمين، من خلال تنظيم المعارض الفردية والجماعية، واستقطاب أهم الأسماء الإبداعية في مجال الفن البصري سواء على المستوى الإنتاجي المتضمن للأعمال التركيبية واللوحات وأعمال الفيديو آرت وغيرها، أو على المستوى النقدي والتنظيري والتدريبي من خلال تنظيم الندوات والورش والدورات التخصصية في مجالات الفن الكلاسيكي والمعاصر.
كما ساهمت صالونات العرض الخاصة والغاليريهات المستقلة في خلق المناخ الاحترافي الجامع بين منتجي الأعمال الفنية وبين منتقيها، وإشراك الجمهور في هذا المناخ المشتبك بالرؤى والتجارب للتعرف على اتجاهات وتيارات الفنون الرائجة والأكثر حظوة في سوق الفن، والمحددة لمؤشرات الذوق الفني لدى النخبة من الشغوفين باقتناء الأعمال البصرية.
وتكاملت بنية الاهتمام بالفن التشكيلي في دولة الإمارات مع ظهور الصحف والكتب والمطبوعات والملاحق الثقافية المعنية بقراءة الأعمال الفنية المحلية، ومتابعة المعارض الفردية والجماعية المقامة في الدولة، سواء من خلال القراءة الانطباعية والمتابعة الخبرية، أو من خلال القراءات النقدية الوازنة والعميقة للأساليب الفنية وطرائق إنتاج العمل التشكيلي ومقارنتها بتيارات الفنون المختلفة، التقليدية منها والحديثة.
وكانت الإمارات من أوائل الدول في منطقة الخليج التي دعمت الفنان المحلي رسميا، وخصصت بعثات خارجية لدراسة الفنون الجميلة في الدول العربية والأجنبية، حيث كان الحصاد إيجابيا بظهور مجموعة من الفنانين الأكاديميين في مجالات إنتاج اللوحة والمنحوتة والأعمال المفاهيمية، ممن كان لهم دور محوري في التأسيس لهذا الحقل الإبداعي والتعريف به وجذب مجموعة لاحقة من الشباب الموهوبين لخلق قاعدة فنية صلبة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهي القاعدة التي ارتكزت عليها الحركة التشكيلية الإماراتية في مسارها التصاعدي شعبيا ورسميا وإعلاميا.
ومع ثبات بنية وهوية الفن التشكيلي في الإمارات ظهرت مجموعة من الفعاليات الكبرى والمتاحف وصالات العرض الضخمة التي صنعت هالة عالمية مشرقة لدولة الإمارات وساهمت بقوة في تنشيط السياحة الثقافية المعتمدة على عرض الأعمال اللافتة والأسماء الفنية الكبيرة في هذا المجال، ونذكر من هذه الفعاليات والمتاحف والهيئات التخصصية: بينالي الشارقة للفنون، وفن أبوظبي، ومتحف اللوفر أبوظبي، ومتحف غوغنهايم، ومنارة السعديات، وأكاديمية الفنون الجميلة بالفجيرة، ومؤسسة «فن» بالشارقة، حيث استطاعت هذه الفعاليات الكبرى تعزيز شراكاتها في عالم الفنون البصرية، وإتاحة الفرصة أمام الأجيال الجديدة للارتقاء بمهاراتهم وصقل معارفهم بتقنيات الرسم والنحت والزخرفة والخط والتصوير وفنونها المتنوعة شكلا ومضمونا.
كما تهدف هذه المؤسسات إلى دعم المواهب وتشجيعها من خلال الأنشطة والفعاليات التي تنظمها على الصعيدين المحلي والدولي، بالإضافة إلى توفير شبكة مترابطة من الشباب الموهوبين والواعدين، وتمكينهم من تبادل التجارب والخبرات على نطاق عالمي أوسع من خلال الترويج لأعمالهم في المعارض المحلية والخليجية والعربية، وصولا إلى المعارض الدولية الكبرى في مختلف أنحاء العالم.

البدايات الحقيقية
ويضيء لنا الفنان الإماراتي الرائد الدكتور محمد يوسف -الأستاذ المساعد بكلية الفنون الجميلة والتصميم في جامعة الشارقة-، على تحولات الحركة التشكيلية في الإمارات قبل وبعد قيام دولة الاتحاد، معتبرًا أن البداية الحقيقية لهذا الحقل الإبداعي البصري كانت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي من خلال القائمين على تدريس التربية الفنية الذين تخرج عدد منهم من المعاهد الفنية بدولة الكويت، مضيفا أنه في ثمانينيات القرن الماضي، ومع اهتمام الدولة بالحركة الفنية والثقافية ظهرت مجموعة من الأسماء الفنية التي وجدت طريقها في هذا المجال، وحاولت إثبات ذاتها وموهبتها، سواء كانت هذه الأسماء منتمية لفئة الفنانين الهواة أو الفطريين، أو كانت منتمية للفنانين الأكاديميين الذين درسوا في الخارج، وحاولوا تطبيق معارفهم على أرض الواقع، من خلال أعمال عبرّت في تلك الفترة عن تجارب واعدة وسط حراك ثقافي محتدم شمل فنون القصة والشعر والسرد الأدبي والمسرح والدراما والموسيقى، موضحاً أن معظم أبناء وبنات الإمارات من الأجيال الناشئة وخاصة ممن لديهم اهتمامات فنية، لا يعرفون الشيء الكثير عن الفنانين المؤسسين وعن المخاضات الأولى للفنون التشكيلية في الدولة، والتي تبنتها مؤسسات وهيئات وجمعيات عدة في المراحل الأولى وفي المراحل التالية لفترة التدشين، مثل جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، والنادي الثقافي العربي، واتحاد الكتاب، واستوديو الفن في المريجة، ومركز إكسبو للمعارض، ومعهد الشارقة للفنون، وبينالي الشارقة وغيرها.
وأضاف يوسف: «كنا في بداية انخراطنا بعالم الفن نجمع بين الاشتغال المنهك على مشاريعنا الفنية، وبين العمل الإداري عند إنشاء جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، من خلال التواصل مع الفنانين والجهات الثقافية، وكان الحماس المتقّد والثقافة الذاتية والرغبة في تطوير المهارات الشخصية، هي سمات بارزة في تجربة الفنانين المحليين خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات خصوصا».
مضيفا: «دفعنا حماسنا لتوسيع نشاطات الجمعية إلى إنشاء المرسم الحر في كل من أبوظبي، ورأس الخيمة، وخورفكان، بدعم من وزارة الإعلام في ذلك الوقت».
وحول شغفه بالفن في تلك البدايات الغامضة والضحلة معرفيا، قال يوسف إن الحكاية بدأت مع مشاهدته للوحة «الشحّات» التي قدمها الفنان الإماراتي أحمد الأنصاري في فترة السبعينيات من القرن الماضي، وكانت عمليات البحث عن هذه اللوحة وتوثيقها وعرضها سببا في إنشاء جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في العام 1980 بدعم من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لتكون الجمعية مقرا ومظلة وورشة إنتاج حقيقية ومتواصلة لمعظم الفنانين بالدولة.
وعن الأسماء والمحاولات الفنية الأولى التي لم تكتب لها الاستمرارية ولا التوثيق الجدي لتجاربها المبكرة، أوضح يوسف أن هناك عددا من الفنانين الفطريين الذين ظهروا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مستثمرين وعيهم الإبداعي وجهودهم الذاتية، ولكنهم انقطعوا ولظروف خاصة عن التواصل مع المشهد التشكيلي المتنامي، ومع الفورة الإعلامية الصاعدة أواخر السبعينات، وذكر من هؤلاء الفنانين: الراحل محسن النومان، وعبيد سيف الهاجري، وناصر عبيد، وظاعن جمعة، وإبراهيم مصطفى، وعبيد الشامسي، بينما استمر فنانون آخرون ظهروا في تلك الفترة الضبابية من تاريخ الفن المحلي في العمل ورفد الساحة الفنية بأعمالهم المتميزة، مثل عبدالقادر الريّس، وحمد السويدي، وهنا القاسمي، وعبدالرحمن زينل، وحسن شريف، وفاطمة لوتاه، ومنى الخاجة، ومحمد مبارك الشيخ، وعبدالرحمن البناي، ومحمد أمين أكبري، وعبدالله البقيش، والراحل محمد بولحية.
وأشار إلى أن المرحلة الأهم في الحركة التشكيلية الإماراتية هو التحول من إنتاج الأعمال التسجيلية الواقعية في نطاقها الضيق والمكرر، إلى إنتاج الأعمال الفنية الخالصة، والمرتبطة بفلسفة الفنان ووعيه واستقلاليته والتي أصبحت مؤهلة للمشاركة في معارض فردية وجماعية محلية وخارجية، خصوصاً بعد قيام دولة الاتحاد، وتحديدا في فترة الثمانينيات الزاهية بهذه التجارب المهمة في طرحها ونوعيّتها.
وأوضح يوسف بأن الحركة التشكيلية في الإمارات منذ بدايتها وإلى اليوم شهدت ظهور أربعة أجيال تعاقبت على التأسيس لهذه الحركة من خلال الصيغة التوافقية والتبادلية القائمة على التأثر والتأثير، ونقل الخبرات، وتنويع الأساليب، ثم الاحتكاك بمدارس وتيارات عالمية، وأخيرا اللجوء للوسائط المتطورة وأساليب ما بعد الحداثة، مشيرا أن كل هذه الأجيال كانت مؤمنة برسالتها الفنية وعملت حسب الإمكانات المتوافرة، ولكن ما يجمعها - رغم اختلاف المعايير ووجهات النظر- هو الرغبة المخلصة في نشر الثقافة البصرية والتعبير الحرّ عن ذواتهم وتطلعاتهم واتجاهاتهم الفنية، واستقطاب الموهوبين، وصناعة مساحة فنية خصبة، وإشاعة حالة ديناميكية ومعرفية راقية بين الفنان والمتلقي.
وقال يوسف إن المشهد في بداياته كان يتمتع بكثرة المواهب مع قلة الإمكانيات، وندرة المعارض، ومحدودية الدعم، إلاّ أن التطور في المشهد التشكيلي كان مذهلا في السنوات القليلة الماضية بعد إنشاء معاهد الفنون الجميلة، والمعارض الكبرى، والدعم الرسمي القوي، وفرص الانتشار عبر وسائل الإعلام والتواصل الحديثة.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©