الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

قصر الحصن بأبوظبي.. رهافة مثقلة بالتاريخ

قصر الحصن بأبوظبي.. رهافة مثقلة بالتاريخ
13 ديسمبر 2018 03:10

إبراهيم الملا

يقف قصر الحصن في أبوظبي بعد تجديده وإعادة افتتاحه، مثل راو افتراضي، مثقلا بتاريخه، وشامخا بأسواره وقلاعه وشواهده البيضاء، ساردا وهو في ثوبه الناصع المهيب ما عجز عن سرده الرواة الحقيقيون، مهما توفروا على حنكة ودراية وخيال، فهذا الحصن بالذات يبقى علامة دالة للتجلي والانجذاب والوجد، فهو ليس مجرّد بناء تأسس على فكرة «الملاذ» أو الوعي بأهمية «الاستقرار»، بل هو مستمد من فضيلة احتواء، ومن قدرة إنسانية مذهلة قائمة على العزم والعنفوان والمكابدة، وهي قدرة استثنائية أيضا، تضافرت فيها اليد مع المخيلة، لتشييد صرح آسر ومتماسك، قوامه الجمال والصلابة، والرهافة والمتانة، من أجل الحفاظ على الذات الجمعية ومكتسباتها، ولحماية ما يجلبه هذا الاستقرار من فسحة للتفكر والتأمل واتخاذ القرار الأوضح والأصلح للبلاد والعباد.

مقام التأويل
هو ليس مجرد بناء بارز، ولا هو سمت لعمران شاهق، بل هو رمز تتعدد فيه الأنساق، ويتشعّب فيه التأويل، ويتشكّل فيه تاريخ طويل وممتد، تاريخ يتعلّى فوق انعطافات الوقت وتحولاته، ويستضيف في ذات الوقت أطيافا وادعة، ومقامات ساطعة، تخلّقت في المكان الأنسب، والمحلّ الأرحب، مكان طالما تدفقت فيه ومنه وإليه انتباهات جارفة، وغايات عارمة، ورؤى خصبة، واحتدمت فيه لحظات فارقة، وأرواح نابعة من امتزاج الرمل بالماء، ومن اقتران البحر بالصحراء، ومن كل ما يربط الثنائيات المتآلفة في العمق، مهما بدت في الظاهر أنها متنافرة، إنها النقائض المشتملة على جمال التنوع، وجوهر التعدد، وثراء التباين.
ومن هنا تأتي أهمية ترميم قصر الحصن وتجديده، من قبل دائرة الثقافة والسياحة بأبوظبي، كونه فعلا ينتمي لوفاء متحقّق، ومحبّة فائضة، فعل ينشد الاحتفاء بمعجم الأيام، وبأرشيف الزمن، في حاضنة كبرى وشامخة، باتت قبلة للعقول والأفئدة، ومزارا للظلال الأليفة وهي تطوف حول نواتها الأولى، ومسقطها البكر، عندما كان الفراغ أصل الامتلاء، والصمت منبت البلاغة، والحجر بوصلة البنيان، وبشارة مولده، في كنف الناظرين لمستقبل هذه الأرض، والمتبصرين بمآلات الأحداث، وتكالب الظروف، وجريان السنين.

مقام الماء
عند النظر إلى هيكل الحصن وحدوده الخارجية، وعند التمعّن في طرز بنائه وتشييده وزخرفته، يتولّد في ذهن الزائر الغريب سؤال ملحّ وهو: لماذا اختير هذا الموقع دون سواه، ليكون مقرا ومستقرا وبيتا للأسرة الحاكمة في أبوظبي منذ مائتي عام وحتى أواسط الستينيات من القرن الماضي، وليتحول بعد ذلك لمنارة استقطاب، وفاتحة خير عميم لمن سكن فيه وقربه، ولماذا امتاز بخصائص وسمات لا تجدها في الحصون والقلاع الأخرى بالمناطق والإمارات المجاورة والأخرى البعيدة.
ولعل التفكّر في أصل هذا السؤال يحيلنا مباشرة للسر الأعمق، والكشف الأوثق، وهو: «الماء»، الماء العذب بالأحرى، الأشبه بالغنيمة النادرة، الغائصة مثل عروق الذهب تحت رمال خدّاعة وكثبان مراوغة، حيث العطش يلوح بين بحر قريب وصحراء محاذية، هو الماء المتدفق من بئر اكتشفه جمع من الصيادين التابعين لقبيلة بني ياس منذ زمن سحيق، بعد مطاردتهم لغزالة دلتهم على موقع البئر، وفي الرواية الشعبية المتداولة فإن حدس هؤلاء الصيادين جعلهم ينقادون لنداء الظبي «المها العربي»، حيث ساقهم إلى منبع عذب، صار لاحقا أصلا ومرجعا لاسم إمارة أبوظبي.
قام الشيخ ذياب بن عيسى آل نهيان قبل 250 عاما من الآن برعاية الموقع واستثمار هبات وعطايا البئر، حيث قرّر الاعتناء بمكنونه الصافي، وسلسبيله الرائق، وينبوعه المتفجّر بالوفرة والنماء وأصل الحياة.
وكان حبل الدلو أو ما يعرف في المنطوق الشعبي بحبل «الرشا» هو حبل النجاة أيضا، ووسيلة الخلاص لسكان المستوطنات القديمة في أبوظبي الذين عاشوا خلال السنوات المتعاقبة في المحيط الخارجي للحصن المنيع، المشيّد مثل منارة عالية، يستدلّ بها القادمون من عمق البحر شرقاً، ومن عمق البرّ غرباً.
يذكر ابن منظور في لسان العرب أن «العذب» هو كل مستساغ من الطعام والشراب، وهو الماء الطيّب، وفي القرآن الكريم: «هذا عذب فرات»، وفي حديث أَبي التَّيّهان: أَنه خرج يَسْتَعذبُ الماءَ أَي يَطْلُبُ الماء العذب، ومن هنا يمكن لنا أن نتصور أهمية وجود البئر العذبة في فضاء يحاصره الظمأ من كل حدب وصوب، ولعل الظمأ الفسيولوجي كان هو الدافع الأكبر للمّ شتات قبائل أبوظبي وربطها بمصير مشترك يتفق الجميع على الذود عنه، وحماية مكتسباته الآنية واللاحقة، إن الدافعية الفطرية تجاه «الترابط» هي التي خلقت الوعي الاجتماعي المبكر بضرورته، وهي التي أنتجت الفكرة الأساس لبناء أبوظبي الحديثة، ومن بعدها بناء الكيان الوحدوي للإمارات فيما يشبه العقد الفريد في جيد المنظومة السياسية التي آمنت منذ البداية بقيمة وأهمية الترابط والوحدة والاتحاد.
استدعى الشيخ ذياب بن عيسى أعدادا كبيرة من أفراد قبيلة بني ياس وخصوصا من منطقة الظفرة، وواحة «المارية» في منطقة ليوا، لتقيم في معية هذا البئر الشاخص بحوافه الظاهرة، والمضياف في جوهره الخفيّ، مؤسسا بذلك أول لبنة لثبات اجتماعي، ولكيان سياسي صلب، سوف يجدد ذاته بذاته، وينوّع مصادر قوته واستمراره مستفيداً من موقع جغرافي حساس في قلب جزيرة أبوظبي، وهو موقع يتيح مجالا واسعا للنظر والكشف والمعاينة، من أجل التعرف على حركة الراحلين عن المكان والقادمين إليه، جامعا كذلك بين ثقافتين تشكلتا بحكم البيئة الصانعة لهما وهما ثقافة البحر، وثقافة الصحراء، إنها النقطة المثالية إذن، التي تحولت لاحقا لمركز استطلاع وبرج مراقبة تقليدي في شكله، واستشرافي في محتواه، وستصبح هذه النقطة أو البقعة الجغرافية الحساسة موئلا للقاء حافل بالمفاجآت، تتداخل فيه المنافع، وتتوافد عليه الخبرات، فأهل البحر لهم صنعتهم الخاصة ومهنهم المستقلة، سواء فيما يتعلق بحرفهم اليدوية المنشغلة بصناعة «الألياخ» والخيوط و»الميادير» والقراقير، إضافة لمعدات الغوص وبناء القوارب والسفن، وكذلك ما يتعلق بشكل بيوتاتهم ومساكنهم الدائمة والأخرى المؤقتة، ونوعية ما يستجلبونه من عمق الماء المالح المتوفر على اللؤلؤ، أو الذهب الأبيض، وعلى الأسماك الطازجة، والأخرى القابلة للتجفيف، وعلى مواد بناء قوامها الحجر المرجاني والصخور البحرية ذات القدرة المسامية العالية لامتصاص الحرارة والتقليل من أثر الرطوبة، بينما يتوفر أهل الصحراء على القوة والحكمة والصبر، وعرفوا من خلال ترحالهم وأسفارهم قيمة المغامرة الجسدية والروحية، دون الوقوع في براثن المجازفة غير المحسوبة، ودون الاستسلام للغفلة أو الركون لطمأنينة مبالغ بها، خصوصا مع الغارات المفاجئة للخصوم، وتبدل أحوال الطقس بين قسوة النهار وحرارته، وثقل الليل وبرودته.

مقام الأثر
أدى تداخل هاتين الثقافتين إلى ظهور مسميات وصفات جديدة على الخامات المستخدمة وعلى أدوات الإنتاج المتطورة حينها، والبسيطة الآن بالنسبة لنا، وتشكّلت بالتالي مفاهيم اجتماعية باتت توازن بين المخيال الجمعي المتآلف مع مصطلح سفينة الصحراء (الجمل) – على سبيل المثال - في مقابل سفينة الماء أو (المِحْمَل) التي ألفها وتعامل معها سكان البحر طويلا، كما أن ثمار النخيل (التمور) باتت رديفا لثمار الأعماق البحرية (اللآلئ)، وتكوّنت بذلك صيغ مستحدثة للتهجئة، وظهرت اشتقاقات لغوية جديدة للكلمات والتعابير المحلية في المنطقة المحيطة بقصر الحصن وفي الباحة الداخلية للحصن بحكم تواصل شيوخ أبوظبي مع الأهالي، وتبادل الرأي والمشورة معهم، والاطلاع على أخبارهم وإيجاد حلول مرضية لمشاكلهم.
ساهم البرج أيضا من خلال علوه المتجاوز لبيوت «السعف» وعرشان «البرستي» المحاذية للبحر، في منح المراقب من على سطحها نظرة بانورامية شاملة للساحل بما يحتويه من سفن شراعية ومن حراك للغرباء والمقيمين من صيادين وغواصين ومسافرين، ومن الجهة المقابلة كانت القلعة تكشف للمراقب حركة الركبان والقوافل المغادرة، وتلك القادمة من الصحراء والمناطق الداخلية التابعة لأبوظبي.

فتّش عن التاريخ
وكما تشير الوثائق المكتوبة والمصورة، فإنه لم يتبق من الحصن الأثري سوى البرج الشمالي الشرقي، أما الحصن الداخلي الموجود حالياً فهو نموذج معاصر «من ثمانينات القرن الماضي» عن سلفه الأثري، وقد تم تشييده بأمر أصدره المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه - عام 1979، والذي يؤكد عزم الشيخ زايد على ترميم الحصن الداخلي واستعادة مظهره الذي كان عليه قبل عام 1904، عندما كان مقراً للديوان الأميري القديم. وتنطوي الإشارة لعام 1904 في أمر الشيخ زايد على أهمية خاصة، إذ يبدو أنها تشير إلى تاريخ أقدم صورة فوتوغرافية معروفة لقصر الحصن، والتي التقطتها عدسة الرحالة السويسري هيرمان بوركهارت.
ومن الوارد أن تكون هذه الصورة استُخدمت لتعريف المهندسين المعماريين بمظهر الحصن الداخلي لقصر الحصن، ومساعدتهم على إعادة تشييد الأجزاء الضائعة من المبنى كما كانت.
وتذكر الوثائق أنه خلال أكثر من مائتي عام تناوب حكام أبوظبي بعد فترة حكم الشيخ شخبوط بن ذياب في توسيع مرافق الحصن من غرف واستراحات ونقاط حراسة ومراكز إدارية، تبعا للتطورات السياسية والاقتصادية والمعيشية في المنطقة والتي أفرزها التنافس الشرس بين القوى الدولية الكبرى آنذاك وعلى رأسها بريطانيا من أجل الهيمنة على طرق وخطوط الملاحة البحرية في الخليج العربي، وعقد اتفاقات وتحالفات مع شيوخ المنطقة لتأمين هذه الخطوط التجارية والعسكرية الهامة.
ويُعد الحصن الداخلي الأثري في قصر الحصن شاهداً على فصل بالغ الأهمية من حكاية أبوظبي، حيث يعود تاريخ بنائه الأصلي إلى عام 1795، وذلك بتوجيه من الشيخ شخبوط بن ذياب، وتعاظمت أهمية هذا الصرح تحت قيادة الشيخ زايد بن خليفة (الشيخ زايد الأول)، حيث تحول مع ازدهار تجارة اللؤلؤ إلى حصن منيع.
وكما يرد في المخطط العمراني لتجديد قصر الحصن فإن المياه تحضر بقوة كجزء أساسي من المخطط الرئيسي للمشروع، وهو حضور يعبر عن الدور البالغ الأهمية الذي لعبته في تطور أبوظبي، وتشكلت هذه المرجعية البصرية والذهنية للمياه من خلال الأخوار والمضائق والجزر والمسطحات الرملية المحيطة بالمدينة والتي عززت الحماية الطبيعية للمكان، وأضحت ممراً آمناً نحو البحر، حيث كان الصيد والغوص لاستخراج اللؤلؤ والتجارة يشكل أساس الحياة على الساحل، ويأتي الشكل الناصع والمتموج لطلاء الحصن الخارجي وكأنه صدى وارتداد لأمواج البحر المنعكسة على الأسوار، أما لون هذا الطلاء فيبدو أقرب للأرض الصهباء مع بعض البقع المرمّدة أو الغبراء المحاذية للسبخات والمساحات البيضاء الموزعة على الجزر القريبة من سواحل أبوظبي.

مقام الدلالة
وتذكر المدونات التاريخية أن قصر الحصن كان أول مبنى حجري في أبوظبي، بدءاً من البرج الذي يقع في الجهة الشمالية الشرقية من قصر الحصن، هو البناء الأقدم لا في قصر الحصن وحده، بل في جزيرة أبوظبي بأكملها، ما استوجب ترميمه واستعادة شكله التاريخي بما يتطابق مع أقدم المصادر المتوافرة.
وعلى الرغم من أن المبنى مغطى حالياً بطبقات سميكة من الإسمنت والجص الأبيض، فإن الدراسات الفوتوغرافية المقارنة أظهرت أن هذا البرج التاريخي لا يزال يحتفظ اليوم بالتفاصيل المعمارية الخارجية ذاتها التي تُظهرها الصور الملتقطة له في عام 1904.
وجاء تصميم الباحة الخارجية القريبة من مبنى المجمع الثقافي على شكل بحيرة مائية تربط أجزاء الموقع ببعضها من خلال جداول ضيقة وقنوات وممرات جوفية ليتحول إلى مسطح مائي كبير يُشكل وجهة للاحتفاء بالإرث الغني لأبوظبي في مجال الملاحة.
أما الشكل النهائي للقصر فاعتمد على فكرة إنشاء «الحصن المزدوج» أو «الحصن داخل الحصن» وهو قرار اتخذه الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه- بعد ثلاثة عقود من تشييد القلعة، وذلك عندما استلم مقاليد الحكم في أبوظبي سنة 1928 من أجل تأمين محتويات الحصن الأصلي وإحاطته بحصن جديد أكثر قوة ومنعة، الأمر الذي أفضى لوجود توسعات في المرافق وزيادة في المساحة الداخلية المحمية بأسوار وقلاع إضافية، وبتصميم هندسي أقرب إلى الشكل المستطيل، يتوسّطه باب خشبي سميك وعال يسمح بدخول الضيوف والزوار والوفود القادمة إلى الحصن.
ويبدو واضحا من مخططات ترميم وتجديد قصر الحصن اعتمادها على نمط الشبكة المتعامدة، وترسيخ هذا النمط في التشكيل التاريخي والعضوي لمدينة أبوظبي، وساهم تطبيق هذا المفهوم الحضري المستقيم، في تعزيز موقع قصر الحصن في الجزء الشمالي الغربي من ككتلة حضرية كبرى.

مقام الجَمال
وتخبرنا الصور الفوتوغرافية القديمة أن الحصن الداخلي الأثري كان مُشيّداً على شكل مربع مغلق، بُنيت جدرانه من الأحجار البحرية والمرجانية، مع وجود أبراج دفاعية في كل من زواياه الأربع، وهما برجان دائريان في الزاويتين الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية، إلى جانب برجين مربعين، يتموضع أحدهما داخلياً في الزاوية الشمالية الغربية، فيما يبرز الآخر خارج جدران الحصن في الزاوية الجنوبية الشرقية. فيما يشبه الزوايا المتعاكسة في الهندسة التناظرية.
تمتعت الغرف الداخلية للحصن وخصوصا في الجناح الجنوبي من القصر الخارجي بنقوش خفيفة وبارزة في آن واحد، وهي منحوتة بالجص، ويرى القائمون على مشروع الترميم أنها نقشت أساسا في الأربعينيات من القرن الماضي، كما توضح تحليلات الطلاء وجود نمطين من الألوان، وأن تسعين بالمئة من النقوش خفيفة البروز بقيت على حالتها الأصلية، وتتميز برسومات نباتية وحيوانية وكتابات دينية، يحمل أحدها نقش «يا الله»، بينما يظهر في نقش آخر زوج من الغزلان أو المها، لها قرون أقرب لقرون غزال الرنّة، وتبرز في الغرف الأخرى مجسمات لورود وطواويس ونقوش مكتوبة يخلّد أحدها ذكرى بناء القصر الخارجي في العام 1940، مع ذكر التاريخ باللغة العربية ونقش تظهر فيه عبارة: «إن شاء الله».
واعتمدت الأعمدة والسقوف المغطاة بالطين والمكونة من الحجر البحري على أخشاب «الجندل» وجذوع شجرة القرم، وتم فرش أرضيات الغرف بالحصائر المنسوجة من سعف النخيل، ليتم بعد ذلك تعزيز هذه الأرضيات بعد ذلك بطبقة من الركام الحجري، وثم ضغطها وتسويتها بمادة «الصاروج» المركبة من الجبس المحروق (الحيّ) والطين والقش وغيرها من المواد الطبيعية. واعتمدت بعض الأعمدة الكبيرة على جذوع شجر الغاف، بالرغم من أن جزيرة أبوظبي ليست الموطن الأصلي لشجرة الغاف، إلا أنه يمكن مشاهدتها في صحراء أبوظبي وواحتها وجبالها القريبة والأخرى المحيطة بمدينة العين، حيث يُعد الغاف الشجرة الوطنية لأبوظبي، لأنها توفر الظل في المنطقة الصحراوية المحيطة بالحصن، إلى جانب بعض الأنواع المحلية الأخرى كالسلم والسدر والبن. أما أشجار نخيل التمر، وهي التي تحمل القيمة الثقافية الأكبر، فتُستخدم في محيط المجمّع الثقافي، متضمنةً سبعة أجناس مختلفة تمثل تشكيلة مختارة من أكثر أنواع التمر شعبية في أبوظبي.
تم بناء الجدران الخارجية لقصر الحصن باستخدام الأحجار البحرية والمرجانية، وتم تبطينها بملاط من الجبس والرمل والأصداف البحرية، والذي يُعرف باسم «جص البحر». وبما أن هذا الملاط المركب مصنوع من الرمال البيضاء الممزوجة مع جزيئات من الأصداف البحرية المسحوقة، والتي تم استقدامها من الشواطئ المحاذية لأبوظبي، فإن الجدران تتألق تحت ضوء الشمس، وبالتالي أصبح قصر الحصن معروفاً باسم الحصن الأبيض.
ويلاحظ الزائر لقصر الحصن وجود تقنيات متقدمة في ذلك الوقت فيما يخص بتبريد الهواء في القصر مثل وجود مساحات استراتيجية ما بين غرف القصر الخارجي يطلق عليها « الكطيع» المأخوذة من اللغة الفصحى «القطيع» لأنها تشكل فواصل بين المساحات الخاصة والعامة للقصر، ويشكّل «الكطيع» إحدى الآليات الأساسية بجانب «البارجيل» أو «لاقط الهواء البارد» للتهوية ونقل النسائم العلوية الباردة في الجو إلى داخل الغرف والمجالس الرئيسية، وكذلك سحب الهواء الساخن إلى الخارج، ويشير نظام «الكطيع» - كما يؤكد المهندسون القائمون على مشروع تجديد قصر الحصن – إلى براعة البنائين الأصليين وعمق فهمهم لطرز البناء القارئة بدقة لظروف البيئة المحلية.
أما الإضاءة المستخدمة في مرافق قصر الحصن المختلفة بعد تجديده، فاعتمدت على فلسفة التصميم الشامل لمختلف النواحي الأخرى في المشروع، وهو تصميم يقوم على التكامل والاندماج مع البساطة في التعبير الإبداعي. وهكذا، تأتي عناصر المشهد العام مثل كراسي الجلوس وأصص النباتات والسلالم بمصادر ضوئية مدمجة، وبشكل عام، يمتاز المشروع بقلة الاعتماد على الإضاءة الاصطناعية، مع اختيار لون دافئ وطبيعي لها. كما تم الإبقاء على المشهد الطبيعي الصحراوي حول الحصن دون إضاءة، ما يتيح للحصن الاستئثار بالمكانة البصرية الأبرز، ومنح الزائر الفرصة للشعور بجو الصحراء الفريد في النهار، ورؤية النجوم التي تزين السماء ليلا.
أما التصميم الجديد للمجمع الثقافي الذي افتتح عام 1981 وأعمال الترميم المتواصلة فيه فقد أتت لتشكل جسراً يربط بين ماضي أبوظبي وحاضرها ومستقبلها، حيث يمثل قصر الحصن هوية أبوظبي التراثية، فيما يُجسد المجمّع الثقافي بدايات المدينة المعاصرة، أما المستقبل فيحضر من خلال الرؤية الحداثية لتحويل المنطقة بأسرها إلى مساحة حضرية للاستجمام والنشاطات الثقافية المتمثلة في الموسيقا والسينما والفن التشكيلي والقراءة الأدبية النوعية وغيرها.
وهكذا، يأتي تصميم المشهد المحيط بقصر الحصن – وخصوصا التصميم الخارجي لبيت الحرفيين - بمثابة ترجمة حرفية للبيئة الصحراوية التراثية من جهة، وللطابع الحضري الحديث من جهة أخرى، حيث يندمج المشهدان في منتصف الموقع ضمن منطقة مستوحاة من المسطحات الملحية أو (السبخات)، والتي تنتشر حول أبوظبي بين الساحل والصحراء الداخلية. ويوضح ناصر العبودي الباحث في شؤون التراث والآثار، أن قصر الحصن ومن خلال دراسته لتاريخ الحصون في الإمارات، يفصح عن استقلاليته المعمارية وهندسته الفريدة، وأنه استشف هذه الفرادة مقارنة بالمواد الأساسية التي قام عليها هذه البناء، والذي رأى أنه بني في فترة متقاربة ومتزامنة مع فترة بناء برج المقطع في أبوظبي، لأنه بناء اعتمد على الصخور البحرية المرجانية، وعلى المقالع الحجرية القريبة من الحصن، ويرى العبودي أن قصر الحصن بني على مراحل متفاوتة، حيث تكوّن أولاً من برج واحد وبنمط معماري خاص، ثم أضيفت له أبراج أخرى أسطوانية الشكل في أطرافه وتم وصلها بجدران عالية حتى تحول إلى حصن ثم إلى قصر ومقر لحكام وشيوخ أبوظبي الذين تعاقبوا على إدارته خلال الفترات التاريخية الماضية.
ويشير العبّودي إلى أن اتساع وتطوير الحصن لاحقاً، جاء موازيا للاتساع الذي شهدته مدينة أبوظبي وازدياد عدد سكانها، وتحولها إلى نقطة استيطان واستقطاب، ومركز جذب وثقل إداري وسياسي تتبعه الحواضر والمدن البعيدة، كالعين والمناطق الغربية والمناطق الساحلية الشهيرة بصيد السمك والبحث عن اللؤلؤ والمتصلة بالإمارة وبكيانها الإداري المتمثل في الحاكم ومساعديه من المستشارين في شؤون الأمن والقضاء والنواحي الاجتماعية الأخرى.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©