الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في «الخيمة الإبراهيمية»!

في «الخيمة الإبراهيمية»!
20 ديسمبر 2018 01:30

د. عز الدين عناية

ساهمت العولمة في زعزعة الحواجز الجغرافية والمادية التي جعلت من ذلك الإيمان الديني أو غيره لغة الخلاص لشعوب وحضارات إنسانية بأسرها، وليتماهى ذلك الإيمان مع أرض ومع أمّة بعينها (1).

الأديان وتحديات التعايش
بات واقع حقوق الضيافة والجوار مطروحاً بإلحاح بموجب تقلّص المسافة الفاصلة بين الأديان اليوم، فالوضع مدعاة لتجديد النظر والعمل، يقرُب ممّا تسمّيه ماريا بوجي جونسون خوض «تصنيع الضيافة» (2)، وهو ما تقتضيه ظروف العيش المشترك في عالم غدت شعوبه متداخلة وأديانه متجاورة. فلا شك أن قيمتيْ الضيافة وحسن الجوار هما من القيم النبيلة والمحمودة على مستوى الداخل، يجري الاحتفاء بهما في أحضان الدين الواحد وحثّ المؤمنين على مراعاتهما. لكنّ المسألة تجد صعوبة بين الاعتقادات المتباينة لما تشمل المغاير الديني، وهو ما يتطلّب مراجعة دينية عميقة تنفتح بموجبها الأديان على احتضان الآخر. لقد كانت الأمور في التصوّرات الفقهية الكلاسيكية تُسوّى في الغالب ضمن دائرة الإلزام والإكراه، وأما اليوم، وتحت مقتضيات التعايش بين الديانات والثقافات، فقد دخلت المسألة ضمن دائرة مراعاة التعددية الدينية والثقافية وحقوق الإنسان. ومن هذا الباب تشغل مسألة حقوق الضيافة والجوار، أو بوجه عام مسألة التعايش الديني، مختلف التقاليد الدينية، فما عاد دينٌ في حلّ من هذا السؤال في ظل التداخل والتواصل الحاصلين بين المؤمنين.
إلى أي مدى يمكن التعويل على المدوّنات الفقهية الكلاسيكية المتأتية من الأديان؟ وهل تكفي التصورات السالفة عن ذلك الآخر أكان من «أهل الكتاب» أو من «عديمي الكتاب» في هذا الشأن؟ فالمسألة ما عادت خاضعة لمجرّد قياسات ومقارنات بناء على ما حصل في ما مضى، تُستَنبط على إثرها فتاوى ومسالك ومواقف، بل باتت عملية العيش المشترك برمّتها ناجمة عن تجريب يعيشه هذا الدين أو ذاك مع تقاليد دينية أخرى. ولا شك أن عملية البحث عن صيغة التعايش الجديدة هدفها بالأساس حفظ الكيان الديني الجمعي من التفسّخ، وسط عالم يمور بالتأثيرات القريبة والداهمة، بما ييسِّر للذات النظر إلى العالم نظرة مستوعبة للتنوع دون إجحاف. لقد شهد عالمنا تحولات عميقة مسّت الذات ومسّت الذوات المقابلة، فالجميع يبحث عن وجود إيجابي، ولعلّ من العبث الحديث عن وجود مانع ودافع للآخر، فلا الأديان بوسعها إتيان ذلك ولا الواقع يسمح لها بسلوك ذلك المسلك.
الأديان الإبراهيمية.. جدل التقارب والتباعد
لو نظرنا إلى مسألتيْ الضيافة والجوار في حدود الأديان الإبراهيمية، نتبين أنّ هذه الأديان لم يتسنّ لها، حدّ الراهن، إيجاد خطة مشتركة في التعايش والتجاور بين بعضها بعضاً. تتواضع بمقتضاها على حضور أتباع الدين الآخر بين ظهرانيها، دون أن يلحقهم أذى أو ترهقهم ذلّة. وإن كانت حصلت معالجات منفردة للموضوع، اختلفت تفاصيلها من دين إلى آخر، دون بلوغ أسس جامعة بينها. فمن الأديان من يملك تشريعات في الشأن، غير أنها تقادمت، أو هُجرت وداهمتها التبدلات الاجتماعية الهائلة، دون أن يتعهّدها أصحابها بالتهذيب والتنقيح، على غرار مؤسسة (أهل الذمّة)، أو حاضنة (أهل الكتاب) في الإسلام؛ ومن تلك الأديان من لا يزال في طور تخليق منظومة لاستيعاب الآخر، لم يحصل إجماعٌ بشأنها داخل المواقع النافذة في المؤسسة الدينية، على غرار (لاهوت الأديان) في الكنيسة الكاثوليكية. فهو منذ صدور إعلانَيْ مجمع الفاتيكان: «الكرامة الإنسانية» (Dignitatis Humanae) و«علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية» (Nostra aetate) (1965) ما زال بين مدّ وجزر. ومن الجانب اليهودي، يبدو الفقه الناشئ داخل إسرائيل واقعاً تحت أثر الصراع مع العرب ليغلب طابع شوفيني عنصري عليه بالداخل (3)، في حين أن الفقه اليهودي المتطور خارج إسرائيل وفي الشتات منشغل بالحفاظ على الهوية اليهودية أكثر منه فقهاً معنياً بقضايا العيش المشترك مع الآخر.
في هذه المناخات التي تعيشها الأديان، ليس ثمة ما يبرّر تميّز واقع ديني على آخر أو أفضلية تقليد ديني على غيره في تنظيم حقوق الضيافة والجوار. فالواقع الديني في أوروبا وفي الغرب على سبيل المثال، وإن احتكّ بِقيم الحداثة والعلمانية والدولة المدنية، بما يفوق غيره من الوقائع الدينية الأخرى، فذلك لا يعني أن باب الضيافة والقبول للآخر قد بات مشرعاً على مصراعيه لديه، وقد تخلّص من مساوئه التاريخية. لذا يبقى السؤال المطروح: كيف تستأنف الأديان الإبراهيمية استيعاب بعضها متجاوزةً التوتّرات الناجمة عن حواضنها السياسية؟ في الواقع يقتضي الأمر جرأة إيمانية تعيد تعريف الهويات الدينية في اليهودية والمسيحية والإسلام بموجب تحدّ يشمل الجميع. إذ نقف على مصاعب جمة تواجه الأديان الثلاثة، لا يجري التنسيق أو التشاور بشأنها، وهي تؤثّر سلباً على هذه الأديان.
في الأديان التوحيدية، يجري الحديث عن «خيمة إبراهيم» الجامعة بصِيغٍ متنوعة وبدلالات متقاربة. فقد اعتبر لويس ماسينيون «الضيافة الإبراهيمية» (4) جوهراً أصيلاً في الأديان الثلاثة، وهو تقريباً ما استعاده لاحقاً الكردينال الإيطالي كارلو ماريا مارتيني في كتابه «أبناء إبراهيم.. نحن والإسلام» (5)، لاتساع الخيمة الإبراهيمية لاحتضان الغريب لأن النبي إبراهيم (عليه السلام) كان غريباً أيضاً قدِمَ من أور من أرض العراق واستقر به المقام في فلسطين. بما يعني أن الضيافة وحسن الجوار شجرة وارفة يتفيّأ ظلّها الجميع، وتقليدٌ متأصل في التقاليد الدينية لورثة التراث الإبراهيمي. فمن الجانب اليهودي يحدّثنا «المدراش» عن إبراهيم الذي أرسل أليعازر باحثاً في الطرقات عمّن يستضيف في خيامه، لم ينل مراده فقام بنفسه باحثاً عمّن يستضيف، فإذا به يلاقي ثلاثة تبين لاحقاً أنهم ملائكة: ميكائيل وجبريل ورفائيل، وهي القصة المستوحاة من (سفر التكوين 18: 2). وكذلك ترد القصة في سورة هود في القرآن الكريم (الآية 68) باختلاف في التفاصيل وليس في الجوهر «ولقد جاءتْ رسلُنا إبراهيمَ بالبشرى قالوا سلاما قال سلامٌ فما لبِثَ أن جاء بعجلٍ حنيذٍ». خُلقٌ في غاية النبل ما أحوج الأديان الثلاثة اليوم إليه؛ لكن عندما نسمع حديث أبناء إبراهيم اليوم يفتون بإخراج بعضهم بعضاً، ثمّة ما يثير الأسى عن ميراث إبراهيم!
مع مفتَتح السنة الأكاديمية في منتصف شهر أكتوبر (2011) صدرت فتوى عن حاخام مدينة صفد شموئيل إلياهو، وتبعه فيما بعد رجال دين يهود كثيرون في المدينة منهم عوفاديا يوسف، وابنه يعقوب، ودوف كيئور، تقضي بتحريم تأجير البيوت والمنازل اليهودية للطلبة العرب الذين يدرسون في الكليات الجامعية في المدينة. ومع الزمن انتشرت هذه الفتوى وتوسعت لتشمل كلّ عرب فلسطين؛ فقد وقّع أكثر من 500 رجل دين يهودي على عريضة فتوى تحرّم بيْع البيوت اليهودية وتأجيرها للعرب... أما الذين رفضوا الفتوى فهم من أتباع التيارات «الحريدية»، ليس لأنهم ديمقراطيون، بل لأنهم يميّزون بين مركّبات «الغوييم». فهم يميزون بين المسلمين وغيرهم. وبما أن المسلمين «يعبدون إلهاً واحداً دون أدنى شك»... فلا مانع من تأجيرهم العقارات. أما بقية الغوييم، الذين يعبدون آلهة غريبة (وفي مقدّمتهم المسيحيون)، فيحظر بيع البيوت والعقارات وتأجيرها لهم (6). هذه الفتاوى الدينية المجحفة تتناقض مع صريح النص التوراتي الحالي «إذا نزل عندكم غريب في أرضكم فلا تظلموه. وليكن لكم الغريب المقيم كالمواطن. تحبّه كما تحبّ نفسك، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر» (اللاويون 19: 33-34) أو في قولها «تكون شريعة واحدة لمولودِ الأرض وللنّزيل النازل بينكم» (الخروج 12: 49)، ولكن الحاخام يجد من الحِيل الفقهية ما يبرّر فتواه. وتزداد المسألة داخل إسرائيل قتامة لما نرى أنظمة الصندوق القومي اليهودي تُنكر حقّ الإقامة أو التجارة أو حتى العمل على غير اليهودي، لا لشيء، إلا لأنه غير يهودي. ولا يحظر في الوقت نفسه على اليهود أن يقيموا أو أن يعملوا في أي مكان داخل إسرائيل (7).
ما أوردتُهُ آنفاً هما شهادتان لفلسطيني يعيش في الأرض المحتلة ولإسرائيلي يدعى إسرائيل شاحاك (1933-2001) عاش أيضاً في الأرض المحتلة.
أعود إلى ما لحق إرث النبي إبراهيم (ع) من بلبلة. ذلك أن مفهوم الملّة الإبراهيمية أو الخيمة الإبراهيمية، حمّال ذو وجوه، كلّ له دلالته وكلّ له تأويله؛ وما نشهده من إيلاف في الراهن داخل المجتمعات، يأتي بفعل النظم التشريعية للدولة المدنية الحديثة لا بموجب تحريض تعاليم تلك الأديان المنسوبة أصولها إلى إبراهيم (عليه السلام)، برغم ما يلوح من قواسم مشتركة بينها، ومن تقارب عقائدي بين اليهودية والمسيحية والإسلام. وبالتالي يبقى التحدي يواجه الجميع، وهو كيف تعيش تلك الأديان شراكة الأوطان؟ وكيف تغدو حاضنة بعضها بعضاً ولا تكون طاردة؟ إذْ ما برحت اليهودية والمسيحية والإسلام دون مفهوم «أهل الكتاب» الضامن للعيش المشترك، ودون مفهوم «الأديان الإبراهيمية» الجامع للتنوع المفترق، وينطبق عليها مفهوم «الأديان الثلاثة» المتجاورة والمتباعدة في الآن نفسه.
وبوجه عام تبدو الأديان العالمية مقبلةً على مواسم اختبار عسيرة، بموجب التقارب الحاصل بين المؤمنين. فالمسائل التي تواجه تلك الأديان تتخطى إمكانيات دين بعينه، وتتطلّب تضافر الجهود، مثل قضايا البيئة والمناخ والفاقة والبطالة والأمّية، وغيرها من المشاكل العويصة. نحن نعيش أزمات خُلقية وقيمية ومعيشية لا يستطيع دين بمفرده مواجهتها، وتتطلّب تكاتف الجهود لمجابهتها. فالعالم يتغير من تحت أقدام الأديان الثلاثة بوتيرة متسارعة، غالباً ما يتسنّى للتشريعات المدنية التأقلم مع تلك التغيرات، وتتعثّر تلك الديانات عن مواكبتها، في وقت يُفترض فيه أن تكون الأقدر والأجدر لما بينها من رؤى أنطولوجية جامعة.

التعايش الديني واللاهوت المنفتح
كان علماء الاجتماع الديني الأميركان، أمثال رودناي ستارك ولورانس إياناكوني وروبرت توليسون، من أوائل من أزاحوا الستار عن احتكار حاصل في الفضاء الديني الأوروبي، أو كما يطلقون عليه «السوق الدينية»، من طرف متعهّد قوي (الكنيسة الكاثوليكية أو الكنائس البروتستانتية) يُمسِك بمقدّرات الفضاء، ويضيّق الحضور على غيره فيه، فهو من يضبط مقاييس الحركة والنشاط والمكوث فيه. في هذا المناخ المحكوم بالاحتكار والمونوبول، من المفارقات الكبرى في عصرنا، أن الدين المستضعَف المهاجر يستجير بالعلمانية وبالدولة المدنية طلباً للمقام الآمن، ولا يجد ذلك المأمن وتلك السكينة عند رفيقه في رحلة الإيمان، وهو حال الإسلام الأوروبي. فهو ليس في ضيافة الكاثوليكية أو البروتستانتية، ولكنه في كنف التشريعات المدنية. فقد ضمنت تشريعات المجتمعات الحديثة ما عجزت الأديان عن توفيره، من حيث إتاحة فرص القبول للآخر. لتغدو الضيافة بدون عنوان ديني، وهو ما يعني انزواء الأديان وتراجع دورها. في وقت يُفترض فيه أن يكون المؤمن «الإبراهيمي»، بين أهله وملّته، حين يفد على الحاضنة الحضارية لدين من الأديان الثلاثة، لكن في الحقيقة لا يجد تلك السكينة، ويصير عنواناً للغازي والمتربّص القادم من وراء البحار، ولذلك أمام دعاة الحوار اليهودي المسيحي الإسلامي، ثمة سؤال محرج: هل هناك ملّة إبراهيمية أو تراث إبراهيمي جامع؟ وفي حال الإقرار بوجود ملّة جامعة، على أيّ مشترك تقوم؟
في الجانب الإسلامي، لا يواكب الفكر الديني حركة التحوّل المتسارعة التي تشهدها المجتمعات، فذلك الآخر الديني، الوافد والمقيم والمجاور، ضمن أي منظور وضمن أي خطّة نتعاطى معه؟ صحيح ثمة إطارٌ قانوني وجهازٌ بيرقراطي يتكفّلان بالأمر، لكنّ العملية في جوهرها تفتقر إلى منظور ثقافي عميق وإلى رؤية دينية عصرية تساير تحوّلات العالم. إذ تبدو المنظومة الفقهية-الشرعية لم تخرج من الضوابط القديمة المتصلة بأهل الذمة، مع أن الواقع تجاوز مؤسسة أهل الذمة إلى تشريع المواطنة. لذا نحن أمام ورشة فقهية وتشريعية وسوسيولوجية مشرعة حتى نعيد وعينا واندماجنا في العالم. وعلى سبيل الذكر تفتقد المجتمعات العربية إلى مراكز أبحاث متعلقة بالهجرة بكافة أبعادها، وبالأديان الوافدة بكافة تبعاتها، برغم أن عديد البلدان تعيش حرجاً كبيراً بفعل تفاقم الظاهرة.
لا تحرِج مسألةُ التعايش الطرفَ الإسلامي فحسب، غير المستعد أصلاً لهذه القضايا، بل تُحرج الغرب أيضاً، ونقصد هنا مؤسساته الدينية وكنائسه. يصف عالم الاجتماع الإيطالي إنزو باتشي أثرَ هذه التحولات قائلاً: لا تُكرِهنا العولمة على الخروج من المركزية الأوروبية فحسب، بل من المركزية المسيحية أيضاً، فحركة الهجرة تحمل إلينا إلى عتبة البيت، أناساً ليسوا مسيحيين، وبالتالي تجبرنا على عيش التنوع الديني بمنظور جديد وليس مجرّد التباهي بعرضه. لِندرك في التوّ أنّ ذلك التنوّع لا يقتصر على الاختلاف في مجال الإيمان؛ وإنّما يجبرنا على إعادة النظر في أصول الوفاق الاجتماعي ذاته، تحدٍّ خفيٌّ يملي أحياناً إعادة صياغة القواعد الاجتماعية المفروغ منها. فالحوار الديني يغادر المجامع اللاهوتية ليغدوَ نقطة حسّاسة في الأجندات السياسية، وبما يعني تعلّمَ الإحساس بالتساوي في التنوع. حتى المراجَعات التي أقرّها مجمع الفاتيكان الثاني وبشّر بها باتت تتطلّب مراجعات أيضاً، أكان من حيث التراجع عن تعاليم هذا المجمع والالتزام بروحه أو من حيث حقيقة قدرته على بناء تعايش حقيقي. لعل المسلك العملي للبابا الحالي فرانسيس ماريو برغوليو في العديد من المناسبات فيه تلميح لضرورة الخروج من أسر الضوابط الكلاسيكية مع المغاير الديني (زيارة البابا جزيرة لمبيدوزا الإيطالية التي صارت محجّاً للمهاجرين الوافدين من الجنوب، وزيارة السجن المدني بروما وتقبيل أرجل مساجين من ضمنهم مسلمين). صحيح هذه الممارسات رمزية، ولكنّها تعبِّر عن إرادة لاستيعاب الغريب قد تكون ترجمتها في الواقع مقصرة أو مخلّة.

نحو أخلاق عمَلية للعيش المشترك
لقد أملت عوامل مثل الهجرة، وانتشار وسائل التواصل، النظرَ مجدَّداً في البراديغمات القديمة للأديان. ومن هنا بتنا معنيين أكثر مما مضى بإيجاد أخلاق عيش مشترك تكون سنداً نظرياً لسلوك عملي في تواصل الأديان بعضها ببعض. وفي غياب هذا الخُلق يتعذّر الحديث عن استراتيجية مشتركة بين الأديان. ضمن هذا السياق بادر اللاهوتي الألماني السويسري هانس كونغ بتدشين إطار أخلاقي جامع بين الأديان يشمل غير المتدينين ويتّسع إلى غير المؤمنين ينظّم العلاقة بينهم. تستند العلاقة فيه من الجانب المسيحي، إلى إعادة نظر في المنظومة اللاهوتية المتقادمة، كما بين كونغ، وإلى بناء سياسة تعايش إنجيلية ولاهوت أديان معني بإحداث تحول في النظر يقطع مع البراديغمات القديمة 8.
المطلوب إذن أن يتحوّل خُلق الضيافة والجوار إلى فلسفة عملية، لأنّ دون ذلك يكون الخوض في هذه المسائل محدود الأثر. وبالتالي كيف نصنع فلسفة التعايش في وقت نعيش فيه تجييشاً ضد بعضنا بعضاً. السائد أن ثمة بعداً عاطفياً طاغياً في النظر لعلاقة الأديان، لكونها تستند إلى أرضية خُلقية متماثلة وإن تباعدت على مستوى العقائد والشعائر. والحقيقة أن الأرضية الخُلقية لا تكفي لبناء قبول متبادل، بل ينبغي أن تعضد الأمر فلسفة عملية يراعيها الجميع. وهذه الفلسفة العملية تمرّ عبر المعرفة، فتنقية الأجواء بين الأديان يحتاج إلى تعميق المعرفة المتبادلة حتى يمكن الحديث عن تعايش وتعارف. فلا يمكن أن نبلغ التجاور الحسن والتضايف المرح ما لم تنبنِ الأمور على تواصل معرفي. من هنا لا تعايش بين الأديان بدون تعارف بينها ولا تعارف بينها بدون وعي علمي.
ومن هذا الباب يقتضي خُلق الضيافة وحسن الجوار التخلي عن عقلية اغتنام حاجة الآخر لتغدو العملية فرصة سانحة للمستضيف، أي الطرف القوي، لقلب الآخر وتحوير مساره العقَدي. خلال العام 2000 أصدر «المؤتمر الأسقفي الإيطالي» ضمن توجيهاته الرعوية وثيقة بعنوان: «التبشير بالإنجيل في عالم متغير»، جاء في النقطة الثامنة والخمسين: «ينبغي أن نواجه محوراً مستجدّاً بالغ الأهمية ذلك المتعلّق بتنصير الأفراد الوافدين علينا عبْر الهجرة. نحن مطالَبون بأداء رسالتنا بين غير المسيحيين في أرضنا. ومع إيلاء اهتمام إلى تقاليدهم وثقافاتهم، ينبغي أن نكون قادرين على تقديم الشهادة بالإنجيل إليهم، وإن وجدَ ذلك هوى لديهم تبليغهم كلمة الرب»9. ثمّة رغبةٌ جامحة تهيمن على المخيال الديني المسيحي تتلخّص في أن عمل الإحسان الكنسي (الكاريتاس) الموجَّه للمهاجرين ليس عملاً إنسانياً خالصاً، بل يبقي اللغة الأكثر ملاءمة لإبلاغ شهادة المسيح للمهاجرين.
لا يجدي نفعاً أن نطنب في الحديث عن اختزان الأديان لرصيد وافر من السلام والوئام والأخوة، إذا ما كانت أفعال المتدينين وأصحاب التوجهات الدينية تسير بخلاف ذلك. قد يبدو الموضوع على الشكلِ المعنون به مبحثنا مسألةً أخلاقيةً في حين الأمر أعمق من الطرح الأخلاقي، ويتعلّق بطرح إجرائي على صلة بمسائل قانونية تضبط علاقة التنوعات الثقافية بقصد تجنّب أي شكل من أشكال الميز والحيف. إن إعداد أبحاث علمية لرصد أوضاع الآخر في البلدان الغربية، أو في البلدان العربية، أو في الأراضي المحتلة في فلسطين، أو في غيرها من الأصقاع، تولي التعايش اهتماماً من حيث التشجيع عليه أو تعطيله، هي أشغال لازمة حتى نعرف ما تسهم به الأديان في رفع المظالم أو تكريسها.
جليّ أن كثيراً من الأزمات التي يطفح بها عالمنا لاسِيما منها القضايا المتعلقة بالهجرة، أو الحروب، أو الاضطرابات العرقية، ليست متأتية بفعل الأديان أو بفعل عوامل دينية، بل هي في الأغلب ناجمة عن أسباب سياسية تجد في الدين أحياناً غطاء وحافزاً لشحذها وتعزيزها. ويبدو المسلمون اليوم في جملة من البلدان التي يمثّلون فيها أقلية ضحايا، ولكن المسلمين هم ضحايا في أوطانهم أيضاً يصنعون مآسيهم بأيديهم ويعمّقونها بأنفسهم. فلا يمكن أن نصنع مآسينا في الداخل ونطالب الآخر أن يسوّيها نيابة عنّا. إذ يدعو العنف المتفجّر في البلاد العربية وبلاد الإسلام عامة، إلى تأمّل رصين بعيداً عن الإسقاطات المغرضة التي تتحكم بمقاربة هذه الظاهرة. وهو ما أشار إليه الكاتب الإيطالي بييترانجيلو بوتافوكو في سياق حديثه عن الواقع العربي الراهن، حيث يشتكي السوريون من تناسي العالم لهم ويستصرخون الضمائر الحية لمدِّ يد العون، متسائلاً وهل أبقى العالم الإسلامي ضميراً للبشرية حتى تتعاطف مع قضاياه؟ فاللاجئ السوري في المخيال الغربي هو فائض عنف، وهو بقايا فوضى عارمة متشظّية ينبغي التوقّي منها بشتّى السبل، وإن لزم الأمر حصرها في الداخل إلى ما لا نهاية، هكذا بات الغرب أمام قضايا العالم الإسلامي خالياً من الشعور الإنساني النبيل 10.
حين يطرُق ملايين من المهاجرين والمهجَّرين واللاجئين أبواب الغرب طمعاً في الإقامة وطلباً للضيافة، فإن المسألة تتجاوز ما هو أخلاقي وتغدو مسألة أمن قومي وأمن اجتماعي يبتّ فيهما القانون، إذ تقف دولٌ عاجزة أمام استيعاب موجات الضيوف بالقوة الوافدين من جنوب العالم وهم يطاردون وهْمَ الرفاه. فما يعنينا بالأساس كيف تتعايش الأديان داخل الحيز الواحد والوطن الواحد دون أن يلحق الضعيف منها رهقاً. فعلى مستوى ديني يسير العالم اليوم صوب ما يمكن تلخيصه في «التعددية الدينية». ومع التحولات التي تشهدها المجتمعات في الحقبة المعاصرة ودخول عناصر مكوِّنة جديدة جراء الهجرة بكافة تداعياتها، غدت التعددية الثقافية والتعددية الدينية من المواضيع التي تفرض نفسها على أي نقاش اجتماعي جادّ داخل المجتمعات. وليست التعددية هذه مطروحة داخل المجتمعات الغربية فحسب، بل داخل مجتمعات الجنوب أيضاً لاسيما منها المجتمعات التي تغري بالهجرة على غرار مجتمعات الخليج العربي. وما يميز التعددية في الغرب أن المسألة ما عادت مطروحة في نطاق الحرية الدينية الفردية، بل في نطاق الحريات الجماعية بضمان المساواة للجماعات والجاليات والمكونات الناشئة على غرار المكونات التقليدية.
تشيع توترات بين الأديان متأتية من عوامل متنوعةٍ منها الخشية من الاختراق والتبشير، وعادة ما تحُول مثل هذه المسائل دون التقارب، بما يحوّل الدينَ الآخرَ مهدِّداً ومتربّصاً. لذلك تبدو الأديان اليوم مدعوة إلى إعادة بناء الثقة المهتزّة بينها، فبدون تلك السكينة لا يمكن الحديث عن تعاون صادق ولن يتسنّى الاحتضان المتبادل. لا شك أن الكنائس الغربية هي أبرز متَّهم بممارسة هذه الأفعال، فهي كنائس عابرة للقارات ولديها قدرات هائلة في التحكم باقتصاد المقدّس تفوق غيرها، بما يزيد من تأزّم العلاقات بين الأديان، حتى أن بعض الدول تصوغ قوانين تمنع التبشير .
لكن في ظل تلك المخاوف ينبغي تجنّب التعميم والنظر للأمور بدقّة. ففي الجانب الإسلامي تروج مواقف غائمة بشأن الإنجيليين غالباً ما تخلّف نفوراً وريبة، وهي مواقف مستوحاة من علاقات الإنجيليين الجدد في أميركا باليهودية المتصهينة، لكن الجلي أن الإنجيليين لا تجمعهم كنيسة واحدة ولا يقودهم بابا، وإن تحدُثُ توتّرات في فضاء فلا يعني انسحابها على كل فضاءات التلاقي. ففي إندونيسيا، وفي أفريقيا في بلدان ما وراء الصحراء، وفي آسيا الوسطى، يحضر في هذا الفضاء الرحب شكلان من العروض الدينية، الإسلامية والإنجيلية، يلتقي المتنافسان كل يوم ويتعايشان بشكل سلمي في مجمل الحالات. لا يتقاسم الطرفان الاعتقادات نفسها، لكن كلاهما يعرّف نفسه أنه مؤمن. وفي أوروبا، في أحضان القارة المعلْمَنَة يتموقع الإسلام والمسيحية كفاعلين ناشطين، ضمن أوضاع الأقلية. فمثلاً في سويسرا، تمثّل «شبكة سويسرا الإنجيلية» -Réseau Evangélique Suisse (RSE)- الهيئةَ التمثيليةَ الرئيسية للإنجيليين، كانت هذه الهيئة قد عبّرت رسمياً عن رفضها التصويت لصالح قانون يمنع تشييد الصوامع، وأعربت في بيان صادر باسم «شبكة سويسرا الإنجيلية» عن «رفضها الصريح من خلال صياغة قاعدة خاصة تتعلّق بطائفة دينية بعينها». ففي منظور «شبكة سويسرا الإنجيلية» لا يحُلّ التصويت، الرافض للصوامع بالأغلبية، «›أيّا من المشاكل الفعلية»11... ذلك أن الصدام الجيوسياسي المزعوم بين الإسلام والحركات الإنجيلية هو نسبي12.

خلاصة
ما نود أن نلخّص به مداخلتنا، أن قضايا حقوق الضيافة والجوار تتطلّب وعياً إيمانياً صادقاً بهاتين القيمتين فلا يجدي نفعاً الفخر باختزان الأديان لتراث عريق في المجال، بل المطلوب وهو كيف نحوّل ذلك الإرث إلى إيلاف وتعايش وسَكينة، والأمر يتطلب مصارحةً ونقداً ومراجعةً، بناءً على إحاطة معرفية إذا ما كنا نروم لهذه الأديان أن تبقى نبراساً للبشر، لذلك أكرر ألاّ تعايش بين الأديان بدون تعارف بينها ولا تعارف بينها بدون وعي علمي.

* ألقيت المحاضرة في الملتقى الخامس: «حلف الفضول.. فرصة للسلم العالمي»، المنعقد بأبوظبي 5-7 ديسمبر 2018.

1- Enzo Pace, Sociologia delle religioni, EDB, Bologna 2016, pp. 330-331.
2- Maria Poggi Johnson, Amor m’accolse. L’ospitalità al cuore della vita, Marietti, Torino 2014, p. 30.
3- أحمد أشقر، التهجير والإبادة.. الفقه اليهودي المعاصر تجاه العرب، بيسان، الطبعة الأولى، بيروت 2018، ص: 218-219.
4-Louis Massignon, L’ospitalità di Abramo. All’origine di ebraismo, cristianesimo e islam, Medusa, Milano, 2002.
5- Carlo Maria Martini, Figli di Abramo. Noi e l›Islam, La Scuola, Brescia 2015.
6- أحمد أشقر، التهجير والإبادة.. الفقه اليهودي المعاصر تجاه العرب، ص: 218-219.
7- إسرائيل شاحاك، التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية: وطأة ثلاثة آلاف سنة، ترجمة: صالح علي سوداح، بيسان، بيروت 1995، ص: 14.
8- Pietrangelo Buttafuoco, Il feroce saracino, Bompiani, Milano 2015, p. 105 e s.
9- «Réaction au vote sur les minarets», Communiqué du Réseau Évangélique Suisse, Genève, 1er décembre 2009.
10- انظر مقال سباستيان فات، «الإنجيليات الجديدة واهتماماتها السياسية»، «مجلة التفاهم»، العدد 42، عمان 2013، ص: 131-144.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©