لا أحد يحب الفراغ، ولا أحد يطيق العيش خارج الزمان. كل منا يبحث عن مكانه في صالة الاجتماع البشري، وكل منا يطرق أبواب الوجود كي يكون له مقعد من جملة مقاعد.
ولكن هناك من لا يسعه مقعد، ولا يقنعه مهد. إنه السعي دائماً إلى السيولة الفائقة إلى حد الفيضان، إلى درجة الغرق.
هناك من يفيض في الطموح والرغبات، فيغوص في اللجة، وفي عتمة الأعماق ينصب أوتاد خيمته، ثم يحرك أجنحة الوهم، والقارب المثقوب يتهادى، ويطوح بأعناق تصعده، ولكن الطامح إلى فراغات أبعد من سواحل العمر والقدرات والأدوات، يمضي شرهاً، نهماً، لا يشبعه الملح ولا السكر، إنه يمضي ويمضي، يتنفس من تحت ياقة قميصه، ويغدق نفسه برغوة الماء، ولا يشبع، ولا يقنع، ولا يرتدع، هو كذلك خيل إليه أن الحياة لقمة سائغة، إنْ تتلقفها تصبح لغيرك، وإنْ أصبحت لغيرك، لم تفز أنت إلا بنضوب الماء من تحت قدميك، فاسع، ولا تتوقف، وسر في الطرق الوعرة. تشعب، وتكسب حتى من الخشاش، والحشائش اليابسة، إنها لك، وليس لغيرك، وكل ما على الأرض من أصفر أو أخضر فهو بين يديك وإليك، فاذهب إليه، ولا تتحرى الدقة في خطواتك، ولا تتوجس من غي يعرقلك، ولا تتحسب لطي يطوي قدرتك، فسر، وتحرك بقوة مثل الأخطبوط، وتلون، وتزين باللفظ، وأصفر الابتسامة، سوف ينحني لك العالم، وسوف يصبح الحظ ناقة رائضة، وستكون أنت على ظهر ركاب تحملك إلى أقصى حالات الفرادة والاستثنائية، ستكون أنت الكائن المبجل ولن تعرقلك الزوابع في فنجان المرحلة، لن تعيقك رجة اللحظات الراهنة، أنت الأقوى عندما تساهم في اقتعاد كرسي ملائم، يناسب مكانتك في العالم، وأنت القيم على أحلامك، ولا أحد سواك.
هكذا يفكر من يصبح بحجم الموجة العارمة، ومساحة الصحراء القاحلة، إنه لا يتوقف، ولا يترجل، بل يمتطي صهوة حصان لم تروضه الأيام، ويسير بسرعة البرق يحطم الأشجار، ويجفف الأنهار، ويهشم جدراناً وأغصاناً، ولا يتوقف، لأنه ظن أنه في المكان مكانة، وفي الزمان رمانة الميزان، ومن دونه لا يستقر الكون، ولا يسكن الوجود.
ولو ذهبت إلى أي مشفى للأمراض النفسية، سوف تصادفك مثل هذه الوجوه، لأنها موجودة بكثرة، بل وأكثر من الدخان في الشوارع المزدحمة بالسيارات الخربة.
سوف تسمع كلاماً يذهلك، لأن «البارانويا»، يجعل من الإنسان مثل الزبد، دائماً يقف على السطح، رغم هشاشته، وضعفه.
الكثير من الأشخاص، ابتلاهم مرض «البارانويا»، فأصبحوا آفة المجتمعات، ومرضها المزمن، وعقبتها الكأداء التي تعرقل تطورها، وتقدمها، وتجعلها دائماً في مؤخرة الأمم.