صعب على الإنسان أن يدخل الدولتين العظميين قبل أربعين عاماً، ولا يشعر بتلك الضآلة التي تفرضها الهيبة المتخيلة لمدنها المتسعة والقاسية، والشعور بأن الإنسان يمكن أن يسحق تحت عجلات الآلات الضخمة التي تسيّر المجتمعات فيها، هو شعور أقرب لليتم حتى تجد صديقاً فيها يعرف أماكنها الخلفية، ويختصر لك الوقت والعثرات أو مرشدة سياحية تدلك على دروبها، وتجعل الدفء قريباً منك، ستمضي الأيام الأولى فيها متراخية حتى تلقي عليك شيئاً من الطمأنينة، فإذا بها مدن جديرة بالمكوث فيها، والتغني بأمكنتها، وما يفرح قلبك حين تستيقظ قابضاً على صباحاتها الجميلة.
في أميركا، الناس يختلفون عما نراه في السينما، ثمة ود في الشارع، وقليل من لم يقف عند السؤال، وقليل من يمر بجانبك ولا يبتسم في وجهك، ثمة صداقة مطروحة في الطريق، مثل ميناء عاج بالغرباء، وكل واحد يتلمس موطأ خطواته ليحاذي الآخر في خطوط تقاطع من الود والاحترام، وهو شأن كل النفوس التي تخاف من الضياع، في كل المدن الأميركية تريد أن ترسم صورة واضحة لهيئة الأميركي، فلا تجد إلا صورة هلامية تتنازعها أعراق ودماء ووجهات مختلفة، وهو رهين تلك الثقافات حين تنصهر مشكلّة مواطناً عالمياً جديداً.
في مدن الاتحاد السوفييتي القديم، الأمر يكاد يكون «سيان»، مع بعض الاختلافات التي بقيت عصيّة على التغيير خلال السبعين عاماً من سيادة الأيديولوجيا، والانصهار الوحدوي، فالمواطن السوفييتي متماه في ثقافات مختلفة وأعراق متعددة، ولكنك يمكن أن تميزه، وإن تحدث بلغة روسية واحدة، لكن ليس له صفة البشاشة، وروح المرح كما هي عند الأميركي، قد يطول الوقت حتى تكسب ثقته، وإن كسبتها، رماها كلها في حضنك دفعة واحدة، الأميركي تظل صداقته تلامس السطح، فلا هو يريدك أن تذهب بتلك الصداقة بعيداً، ولا هو قادر أن يهبك صداقة عميقة.
لذا بعد انتهاء الحرب الباردة بينهما، ظهرت في السينما الأميركية والروسية ملامح الشخصيات من البلدين، والتي رسمتها السينما وأرادت تصديرها إلى العالم، فالسينما في هوليوود خططت ملامح الشخصية الروسية الجديدة بعد الانهيار، والمكاشفة، وسقوط الأيديولوجيا، فأظهرت الروسي بصورة نمطية جديدة، غني، مسرف، يلبس ويأكل ويشرب ويتصرف بطريقة فلاحية، رجل عصابات، شرير، يتعامل بخشونة وغباء مع كل شيء، جلف مع زوجته والنساء، وحقود تجاه الغرب وأميركا، في حين أظهرت السينما الروسية ملامح الشخصية الأميركية، عنجهية على فراغ، بطولات وهمية، متعال، ساذج، وسطحي في التناول، غير مثقف أو واع، هو أقرب لراعي الأبقار، غير شجاع، ومحب للمال، وكل شيء عنده يخضع لمسألة الربح والخسارة، منصاع لزوجته المسيطرة.
لكن حينما تزور الآن تلك المدن المتسعة والقاسية كسائح مطلع وتهمك المعرفة، وقراءة الإنسان والمكان، وتبحث فيها، لا تجد ملامح تلك الشخصيات المركبة في الشارع الأميركي أو الروسي، تجد إنساناً بسيطاً يبحث عن إنسانيته، وأحياناً عن هويته.