تباً للأذى، وصهٍ صهٍ لنطقهِ، وكفى كفى لتصفيق يديه. جاء مرتدياً قناع الموت، وشقّ بمخلبهِ وداعة الروح، وجرّ من حشاشتها عزيزها. وكنا، أنا وأنت يا العزيز، قد تنادمنا دماً بدم، وتقاسمنا كِسرة الكلمة، ومضغنا معانيها حتى تفتت الكلام في أفواهنا. وأذكرُ، أننا وقفنا في أوّل الأمر عند زاوية وأمامنا الجهات الأربع، لكنك نظرت إلى الغيمة وقلت: هذه شرفتي. ثم خلعت قميصك وألبسته لعابر سبيل، اكتشفنا لاحقاً أنه ظلك. وما كاد نضوجنا يزهو في ثلاثينه، إلا وأنت تلقمُ البحرَ أسماك قلبك كي لا يجف ريقه، محتفلاً بفكرة أن الأجنحة تنبتُ في العقل، لا على الكتفين، وأن القصيدة ينبغي أن تُعاش وإلا تجوّف لُبّها، وتخثّر البرقُ فيها ومات.
كنا قد دخلنا وقتها في تسعينياتها. هذه الأرض الوطن البيت الأم والمدى. قلت لي وقتها إن الإمارات سماء ملاك الحرية، وترابها سيرة رجلٍ زرع الشمس في كفوفنا. لذلك، صرت تسابق الآخرين في الكرم، ومن الكرم كبرت المحبة من حولك، وأصبحت يدك هدياً لمن تعثّر سعيهم، وقسى على طهرهم ليلُ المصيبة. أما القصيدة، فقد تشعّب فجرها في دمك، وتحول النص القصير المختزل، إلى سردٍ مشحونٍ بالتأملات الغارقة في سؤال وجودها. هكذا، جاءت روايتك (الديزل) لتفكك ما كان غامضاً وسرياً ومسكوتاً عنه. كانت اللغة في هذا النص المبهر، حرةً كما ينبغي لها، تفيضُ بالدلالات الشعرية، وتحررُ الشخوص والرموز من سطوة المكان والزمان. وكان بطلها الملقّب بالديزل، يسرحُ ويمرح في بعدٍ ثالثٍ من الوجود، رغم إعاقته الجسدية.
بعد الديزل، دفعت بنصوصك الجديدة في كتاب (الأشياء تمرُّ) معززاً أنفاسك الشعرية بروحٍ التفاؤل، والانحياز إلى جمال الصورة، والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة من حولك. مع مقدمة للكتاب تقول: (كثيراً ما عاتبني أصدقائي على أعوامي المهدرة، وكثيراً ما توهمت وصدقتهم، أما الآن فليس لدي شيء لأفعله، سوى أن أنظر إلى سجاد البيت، أغيّر موضعه، كما أغيّر حياتي). وكانت تلك خطوة أخرى في تحولات الذهاب إلى أقصى السؤال، حيث اختلط ماء القصيدة بيوميات الحياة، وتداخلت الرؤى بين الحقيقة والواقع، فصرت أنت نفسك نصاً شعرياً باذخاً، تعيش لحظتك الراهنة، ممتلئاً بكامل تفاصيلها، مرتحلاً في العواصم والأمكنة والقلوب.
وداعاً يا العزيز ثاني السويدي.. خطفك الموت في زمن الموت. لكنه لن يُزيح سطوة روحك من دمي ودم القصيدة.