- لم تعتد العين أن تفارق «العين»، لأول مرة بعد خمسة أشهر من الغياب الجبري، والحظر الوبائي، تكتحل العين برؤية «العين»، ولأول مرة في حياتي يكثر طول هذا الغياب، حتى حينما كنت أدرس في الخارج لم يكن الغياب يتعدى الأشهر الثلاثة والنصف عن تلك المدينة التي تبعث في النفس طمأنينة من نوع آخر.. دائماً ما تشعر فيها أن الحياة ما زالت بخير، وأنها رحبة حتى المنتهى، وفيها صدق لا يفتعله أهلها، فيها شيء من روائح الأمس البعيد، وفيها أناس طيبون آخر حدّ الطيبة، وصلتها الجمعة على عجل، كمن يحمل مكتوباً أو «خطاً في عاروك» وسيعود، أشعرتني وكأنها تخبئ لي أشياء في الغياب، وكانت فَرِحة بالحضور، كانت كأم أردانها العطر وخنين الطيب والبخور، ودمع بارد يكاد يحرق مآقي العين ولا تقول، كانت كظل العمة الساكن، والتي تشبه حيناً شجرة التين، وحيناً تشبه شجر اللوز في بيوت الطين، كانت كأخت لصهيلها طعم القهوة والهيل والزعفران، وخرايف الصيف، كيف تشعلك هذه المدينة مرة واحدة، وكيف يمكن أن تهدهد كل هذا التعب مرة واحدة، وكيف لا تنسى المحبين؟!
- دوار المفرق مدخل أبوظبي الحقيقي للقادمين من الجهات الثلاث، مكان قديم، كان ملتقى ومطرحاً وهمزة وصل ومعبراً ومفترقاً للذاهبين والآيبين، اليوم.. يمر الناس عليه سراعاً طائرين، لكن ما زالت للمكان هيبته، وما برح له حضوره، وكأنه لم يفارق حنين نفوس الناس الطيبين، حين كانت تُمرّح القوافل بأثقالها، وحين يستريح الظاعنون بحملهم وركائبهم، يشعلونها ناراً بين أثافي المراجل والقدور، ولكي يستهدي بها الضيف أو يتركون جمالهم وإبلهم ترعى، ويتسامرون على دلة مركبة على الجمر، وقرص «العقيلي» تحت الرماد، قبل أن يناموا قليلاً تحت تلك الأشجار البرّية التي لا تشكو من حرقة الصحراء، ولا من وجع العطش، كان ذاك المفرق يتجدد، غير أنه لا يتغير، حتى بعدما داست الطرق السيارات القديمة، ظل ظلاً ظليلاً لأولئك العابرين، ولـ «مواترهم» التي طول السير يسخنها، وتوزعت في جنباته مقاه، وصنادق مبردات، ومطاعم بدائية، لعل أشهرها مقهى «بو حشّي»، اليوم تعلوه طرق سريعة وتفرعات وجسور، غير أن الأرض مكشوفة على الجهات الأربع، وقد ناديت من زمن باستصلاح تلك الأراضي المشاع، ودوام اخضرارها والاهتمام بريّها وسقايتها، وزرع النخيل فيها، لأن المفرق وجه مدخل أبوظبي الحقيقي، وحين أشعر أن الأذان في مالطا معطل، أعاود التذكير، حتى اقترحت مرة، إذا ما كانت البلدية غير قادرة على تنفيذ ذلك المشروع الأخضر للمفرق، يمكن المساهمة فيه كأفراد متطوعين، يحبون ويودون جلب الجمال لعاصمتهم البَهيّة، وخاصة تلك المساحة الجرداء التي كنت ترى فيها «درامات» مقلوبة، قطع حديد لا تعرف ما لزومها في ذاك المكان، بقايا كتل أسمنتية تبرز منها أسياخ حديد نافرة، شجيرات عشوائية.. وقمامات تجلبها الريح، لا أدري لماذا فرحت حين رأيت لأول مرة هناك رملاً أحمر، وربما مشروع أخضر!