لن تُكتب لك الحياة إلا حين تبدأ سيداً. عندما تمدُّ ساقك المشلولة خارج المربع وتكتب بها خطوة الانطلاق نحو اللانهاية. لم تلدك أمك عبداً لتقف متفرجاً أمام السؤال، وإنما لتُمعن في كشفه وتفكّ طلسمه وتفضح مكنونه وخوافيه. كل بابٍ مغلق عدوك، كل كتابٍ مغلق رمزٌ لضعفك، وعليك أن تُدرك أن الكلمة مفتاحك السري إذا استعصى عليك اكتشاف المدى، قلها لتبني ارتحالك. قم وادخل معي في القصيدة لترى النساء الطويلات يسبحن بفساتينهن البيضاء في سماء بعيدة والقمرُ يبتسم لهن. وفي القصيدة يركضُ رجالٌ كثيرون في فنجان عرّافة عمياء ترى المستقبل باعتباره الآن، ويتحول الأطفالُ إلى دمى خشبية في مدارس البحث عن الحقيقة. ومن يدخل في القصيدة يلدغُ أولاً في العقل، ويجري سمُّ الدهشة في عروق وعيه، وتبيضُّ الرؤى، وتشيخُ أجنحة اليأس حتى لا فضاء يلوحُ له، ولا طين.
ادخل معي في الروايات وكن بطلاً يوماً على مصيرك الذهبي. لم تلدك أمك عبداً لتنحني مثل غصنٍ هزيل كلما هبّت الريح، وإنما لتتسلق الأشجار العالية كي تقطف النجمة وتمصّ من رحيقها حكمة الضوء وتذهب بعدها لتدحر الظلام الذي يغلف روحك ويبث في معناها الخوف والريبة والشطط. وحين تصير بطلاً في رواية وجودك، يصير الآخرون ظلالك الأطول منك، وتنهار تحت ممشاك الحدود الواهية للزمن. أنت حياةٌ كاملة، فلا تصدق أن الماضي الذي تنساه يموت، وأن الحاضر الذي تعيشه مجرد بوابة للمستقبل. لا، هذا الانفصال في أزمنتك ليس حقيقياً لأنك ستظل محتفظاً بالطفل الذي فيك، وستظل كلمة الحب أغنية احتفالك بالحياة كلما أشرق عليك فجر يومٍ جديد.
ادخل معي في خلوة الصمت. فيها سنسمعُ صوتاً واحداً تتفرعُ منه كل الأصوات، وسندرك أن الكون كتلة واحدة في الشكل والروح والجوهر والمعنى، وأن الجزء الصغير الذي يعادل ذرة ترابٍ، هو نفسه الجزء الكبير الذي من دونه يكون الكمال ناقصاً. وإذا جلسنا قبالة بعضنا، لن أناديك: يا ضدي المختلف، ولن أقول إنك الآخر. بل كلانا جمرتان تحترقان في وقود قطار سيظل مرتحلاً للأبد. وفكرة النقيض مجرد بدعة من يرى الصورة ناقصة دائماً.
لن يُكتب عليك الموت إلا حين تترك حبل مصيرك من يدك، عندما تفلت متعمداً مجدافيك، مستسلماً للتيار أن يأخذك إلى حيث ترتطم بك الصخرة فتُدميك، ويلفّك الظلامُ بمعطفه، ويُعميك.