أمضينا عقوداً من الزمن ونحن نلعن الشيطان في الجهة الأخرى من عالمنا، وما زلنا نلعن، وننعى ونذرف الدمع مدراراً على الحيف الذي أصابنا جراء توغل هذا الشيطان في عروقنا، وتحت الجلد، وفوق سطح القمر، والذي أطفأ مصابيحه منذ أن غزانا ذلك الشيطان اللعين، وصار يلحس دماءنا، ويعض على جفوننا، حتى صرنا عندما نريد أن نفتح عيوننا لا نرى غير هذا الشيطان المتربص بمصيرنا، والمتأهب لاغتيالنا، والمترقب لأي حركة تبدر منا.
واليوم عندما يبرز من بيننا من يريد أن يزيح الغمامة عن أعيننا، ويطرد الشيطان من عقولنا، وينظف تاريخنا من النفايات، والفضلات، وينقي مياهنا من الشوائب، ويطهر أرضنا من الخطاب المشوش، والمشبوه، نتبرأ من كل فضائله، ونجحد بحسناته، وننبري كجرذان مذعورة، ونطلق صراخاً ونواحاً، ونعلن عصياننا للحقيقة، مختبئين تحت ملاءة تاريخية رثة من زمن عاد وثمود، ونبادر في وصف كل فضل بأعتى الأوصاف وأنكئها، ونتصدر المشهد وكأننا نمارس محاكم التفتيش التي نعتها العالم بالرذيلة، ونعلن عن أنفسنا أننا أصحاب الصكوك والغفران، ومن يريد العفو فليستمع إلى تراتيلنا الوهمية، وينصت إلى تأويلاتنا وخزعبلاتنا، فنحن له ولسنا عليه. 
هكذا تبدو بعض الأنوات التي خسف بها الله تعالى وحولها إلى دمى، تختزل التاريخ في لحظة حماقة وتصف كل من تحرر من الأفق الضيق بما لا يليق. بعض الأشخاص وأنت تتابع زبدهم ورغاءهم وثغاءهم، تشعر وكأنك تتابع صراع الثيران في حلبات البؤس البشري، تشعر وكأنك خطفت من مكانك، ولم تجد نفسك إلا في بيداء جاهلية أولى. هؤلاء الأشخاص لا يعرفون من الحياة إلى كتاب التاريخ القديم والذي فيه مصطلحات ربما تعود إلى زمن قابيل وهابيل، ولم يسعهم الوعي في أن يخرجوا من هذه الشرنقة ليروا العالم كما هو، وليس كما يرونه هم، وهذا الوعي في حد ذاته هو الذي حول الأنا لدى هؤلاء إلى تمثال شمعي نمت على جلده عناكب ونواكب ومصائب وخرائب، ولكنهم لا يزالون قابعين هناك في البيداء الشوهاء، وأي حركة رمش من إنس وليس من جن، ربما تشكل لهم زلزلة، ترتعد لها فرائصهم، وتهتز أبدانهم، وترتجف صدورهم، لأنهم آمنوا بالصدأ كمسحوق لتجميل وجوههم. والله المستعان.