من نحن بلا أحزان؟ كيف نأمن على أنفسنا بدونها ألا نتيه في أودية الغفلة مثل شياه ضالة؟ ما أحب الحزن إلى نفس الصوفيّ، وما أمقته على نفس الجاهل الذي ألهته الدنيا، يريني الله في الطريق حزناً بعد حزن.
 هكذا حدث نفسه مستخفاً الشيخ محيي الدين بن عربي، عندما قال له أحد المعزين في موت صديقه إسحاق «آخر الأحزان يا سيدنا»، وهكذا وصف الروائي محمد حسن علوان في روايته «موت صغير» رأي الشيخ، ورؤاه في «الحزن».
 لست هنا في صدد الحكم على ذلك، فللأمر أهله وشروحاتهم، ولكني أتساءل فعلاً، هل في هذا الأمر دعوة إلى التطبع بذلك، أم هو دعوة للتعامل معه؟!
 وحده الحزن دوناً عن كل الأشياء دائماً ما يكون هناك فائض وفير منه، لا يحتاج الأمر الكثير من الوقت لكي تستنهضه، في أحوال من حولك، في شاشات التلفزيون، وفي المطارات والمستشفيات، وفي نفوسنا التي مهما بدت سعيدة ضاحكة إلا أن فيها نقاطاً حساسة لاستنهاض الحزن سريعة التفاعل، لا تعطب، بل على العكس، تزداد قوة مع الزمن، يقول البعض: إن الحزن في مقتبل العمر يكون سائحاً، ومع تقدم العمر يبني قصوره، ويحصل على شرعية أبدية.
 الحقيقة أن هناك نفوساً تصلح لاستعمار الحزن، وتقدم له شرعية البقاء من دون أي مقاومة أو مطالب، بل تدخل معه في اتفاقيات ربط مصالح طويلة الأجل لضمان بقائه، لأسباب كثيرة، وفي رأيي أن أكثرها قسوة ما قاله ابن العربي: إن نفساً بغير حزن هي لجاهل ألهته الدنيا!
 هناك نفوس لا تستسلم للحزن، لا تقبله إطلاقاً بل تقاومه، تحاربه بشراسة وبكل الأسلحة، وترفضه حتى لو كان سائحاً، تعلن ثورتها الخاصة على كل بُنى الحزن في داخلها فتقتلعها وتزرع مكانها براعم للأمل تسقيها بأفراح كانت، وأخرى على أمل أن تأتي.
 كان ابن العربي يرى في الحزن «يقظة للقلب»، وفي تبدل الأحوال حكمة للرب وابتلاء وتطهيراً للقلب، وهذا جوهر المقصود، فتغير الأحوال شرط للحياة، فلا الحزن المستمر، ولا الفرح المستمر «يعول عليه».