زمان.. قبل النفط، أيام جيل الستينيات الذي لم يعرف السفر إلا متأخراً، كانت لدينا هواية جميلة ومسلية ومفيدة، هي البديل الحقيقي عن السفر إلى المدن الذي لم يكن ميسوراً حينها، إما بحكم العمر أو بحكم الإمكانيات أو الفهم والدراية، كنت تجد كل أولاد الحي من هواة المراسلة، وجمع الطوابع، والمناظر الطبيعية، وتبادل الآراء دون استثناء، حتى الكسول الذي ليس له من طيّب الخاطر أن يخط صفحة، والمتعثر في صفه الذي لا يقدر أن يكتب جملة صحيحة، والرياضي الذي كل فهمه في الكرة، ولا يحب الطوابع، ولا له دخل في تبادل الآراء، تجدهم مدخلين رؤوسهم مع تلك الفئة التي تعشق الأسفار بالمراسلة، وتبحث عن فائدة غائبة أو تريد أن تتعلق بمراسلة فتاة من الجنس الناعم، والتي تجدها مصورة بـ «باروكه» تلمع، والكحل ولا كحل «سميرة توفيق»، وتبدو للمتفحص العاقل أنها أكبر عمراً من صورتها المحسنة، لكنه في زمن القحط ذاك، كان يرى فيها «نجلاء فتحي أو سهير رمزي» مع بداية الأفلام العربية الملونة «أي كلام»، وعلشانها يمكن الواحد يكذب، ويكتب لها أنه من أنصار «فريد الأطرش» من باب تقريب وجهات النظر، والأشياء الفنية المشتركة، لكنه في حقيقته دوم التساؤل لِمَ «فريد الأطرش» كثير التنحنح؟ وكحته مسموعة قبل أن يبدأ في الـ «كوبليه».
في ذاك الزمن غير البعيد، كان الجميع جالساً في البيت، ولا يرى إلا حارته، ولا يعرف إلا جارته، ومدينته أشبه ما تكون منعزلة، ولا فيها شيء من التسلية، وطوال الوقت إما يقرأ مجلات قديمة أو يسمع للراديو، ويسافر بأحلامه، ويتواصل مع الآخرين من خلال ذلك الباب الجميل في الصحف والمجلات، وبعض البرامج الإذاعية الذي يسمى «ركن التعارف»، لقد عشقنا ذلك الركن، وكنا من المواظبين على المراسلة، وما يتبعها من جمع الطوابع، وبعضنا يزيد عليها، ويبالغ أنه من هواة المطالعة أو جمع المناظر الطبيعية، هذه الهوايات كانت غالبة لدى الرجال، بَعضُنَا ظلت معه يجرجرها لخريف العمر، بَعضُنَا الآخر تخلى عنها أو هي تخلت عنه، حتى جاء زمن لم نكن نتصوره قضى على تلك الهواية الجميلة، وقض أركانها من صحف ومجلات ورقية، وحتى برامج إذاعية، واختفى القرطاس، وجفّت الأقلام، ولَم يعد للناس متسع من الوقت ومن رحابة الصدر أو حتى المزاج بدخول الهواتف النقالة مختصرة كل شيء بما فيها المسافات والزمن والأصدقاء والأسفار.
نحن هواة المراسلة وجمع الطوابع، وتبادل المناظر الطبيعية، كنّا نحرص ونتسابق لمن تأتيه رسالة من الخارج، وعليها طابعان، نظل نتسول منه ذلك الطابع المدموغ بالأختام، وكان في العين، غير بعيد عن بيتنا الأول في وسطها المخضّر بالماء والنخيل، مكتب البريد القديم المصنوع من «البريستي» على زمن الإنجليز، كان مزوداً أساسياً لكثير منا نحن الراكضين خلف طوابع البريد، بعض الطوابع كنّا نشتريها، وبعضها نتبادلها، وبعضها الآخر نسعى لها بشتى الطرق، ومنها السفر بالمراسلة، تلك الطوابع كنّا نصففها حسب بلدانها في «ألبوم» خاص، معتنى به، في حين نحتفظ برسائل أصدقاء ركن التعارف في صناديق خشبية صغيرة، وبعضها كانت معطرة، خاصة بتلك الأوراق الوردية، وذات القلب الكسير أو المجروح أو الذي يخترقه سهم «كوبيد».. وغداً نكمل