لم أعد أذكر متى كانت آخر مرة شعرت فيها بهذه الأحاسيس، فمنذ فترة ليست بالقصيرة توقفت عن الانبهار بِلغة كتاب أقرؤه. عندما أصل لهذه الحالة، أحدّث نفسي بأن ذلك بسبب العمر، فكلما كبرنا وزادت معارفنا واتسع اطلاعنا، ندرت الفرص التي تجعلنا نندهش. إن الدهشة فضيلة منحت للأطفال من دون أدنى جهد منهم، وحجبت علينا نحن الكبار إلا لمن اجتهد، وما نهمي المستمر لتجربة الأشياء إلا محاولة مستميتة لإبقاء هذه الفضيلة قيد العمل قدر الإمكان. أخبركم بذلك، لأقول إنها عادت مؤخراً من قراءة خاصة جداً، وجدتها في لغة الشاعرة الإماراتية أمل السهلاوي في ديوانها «كان عليّ أن أوجلك» الصادر مؤخراً عن دار رواشن.
لصاحبة الديوان لغة حلقت بي إلى سماوات حبلى بمشاعر الاكتشاف القديمة. أن تقرأ سطوراً وكأنها كتبت لك، سيمنحك ذلك شعوراً يجعلك تتوقف بإمعان وتركيز شديدين، ويدخلك حالة استرخاء لاإرادية. عن نفسي كنت أنتقل من سطر لآخر رافعة حاجبي الأيسر، ساكبة ثنائي على صاحبة هذه اللغة معربة عن إعجابي الممزوج بغبطة مقرونة باستفهام ملؤه الانبهار، وأقول بصوت مسموع: كيف فعلت ذلك؟ كيف تمكنت من صيد مشاعري وصياغتها بهذه الدقة الشاعرية!
في كتابتي هنا سأخبرك يا أمل أني أمارس بعض حيلك، فأنا أبحث بإصرار واندهاش عندما أتوقف أمام الإشارة في وجوه من يمرون أمامي على معبر المشاة باحثة في ملامحهم عن من يشبهني، متسائلة هل لهم نفس قصتي؟ أنا أيضاً عندما أحزن أختبئ في سريري وأتقوقع كالجنين، وألتفت على نفسي في حيرة من أمري، أأضع يديّ على قلبي الصغير أم أصم بهما أذني.
انتهى ديوانك سريعاً ولكني طاردتك بنهم الباحث عن ‏الدهشة المنشودة عبر فضاءات بعيدة، فوجدتك في ذاتي، فأنا أيضاً يا أمل قرأت مزرعة الحيوان لأورويل مراراً، وما زلت أقرؤها في وجوه وأفعال من حولي!
ما أجمل أن يكتشف المرء ذاته الغامضة في كتابات مبهرة.