كُنت أخضع طلبة الإعلام الذين يتلقون تدريباً إعلامياً في صحيفة الاتحاد - منذ 14 عاماً - لتمرين دوري ‏يقومون فيه بالكتابة عن وجهات نظر الآخر المختلفة معهم كلياً! فكنت أسألهم مسبقاً حول قضية معينة «هل أنتم مع أم ضد؟» من دون ذكر الأسباب، ‏ثم بعد ذلك ‏أقوم ‏بفصلهم إلى فريقين، ‏وأطلب من كل فريق أن يبحث في حجج الآخر ويحاجج عن رأيه المختلف عنه، ‏وسيقوم اليوم التالي بعرضها وكأنها وجهة نظره. ‏‏كان الأمر صعباً عليهم ومربكاً، ولكنه ساعدهم في نهاية المطاف على إدراك أن هناك رأياً آخر علينا الاستماع إليه ويستدعي التأمل فيه، كما أننا أيضاً‏ نستحق فرصة نعطيها لأنفسنا لاختبار المختلف الذي قد يكون أفضل.
إننا نعيش ‏اليوم واقعاً معلوماتياً غير مسبوق، ليس فقط على مستوى الكمية المتوافرة المتدفقة منها كل ثانية، وإنما أيضاً - والأكثر تأثيراً - على مستوى مصداقيتها وواقعيتها! وذلك رغم تناقضها! بالفعل، زاد مقدار مصداقية المعلومات «المتناقضة» بشكل غير مسبوق في هذا الوقت الذي نعيشه، أكثر من أي وقت مضى. ولعل الميزة التي يتمتع بها جيلنا من تعدد نوافذ المعلومات «العالمية» تحولت إلى نقمة أيضاً غير مسبوقة شهدتها البشرية على الإطلاق. إذ يمكننا أن نتعامل مع معلومة بكامل توثيقها الرسمي والعلمي مقابل أخرى لها المقومات نفسها، ولكنها متناقضة تماماً مع سابقتها، وهو ما أثر بشكل مباشر على قدرتنا نحن أيضاً كأفراد في تحديد قناعتنا تجاه خيارين أو أكثر في بعض الأحيان.
إن مجرد عرض معلومة في إحدى جلساتنا، يستجلب معلومة أخرى مضادة ومختلفة جذرياً، قد ‏يعرضها آخر في المكان نفسه، وبشكل آلي مثير جداً. وتكمن الإثارة بالنسبة لي في قدرة المعارض صاحب المعلومة المضادة على تبديل رأيه باتخاذ رأي كان قد عارضه قبلاً كحجة له، ولكن في جلسة أخرى.. وهكذا.
‏تتعدى سلبيات الحالة الثانية الفاعل والمتلقين، لتضرب منظومتنا الاجتماعية في صميمها، والتي من المفترض أنها قائمة على «الثقة الضمنية» التي تستند إليها علاقاتنا وبالتالي تصرفاتنا. إن تمتع جيل كامل بالقدرة على الخلط والتمييع في الحقائق بتعمد مطلق في توجهاته أمر خطير للغاية، ‏يجعل من التعبير عن الرأي مجرد فرصة للظهور، ‏والمنافسة وإبلاغ الآخرين بإمكانات المتحدث اللغوية والمعلوماتية... لا أكثر.