ليس سهلاً أن يحمل الرجل مشعلاً ويعبر به في ظلام العقول. وليس سهلاً أن يقود رجلٌ معركة التنوير الفكري والجمالي إذا كان محاطاً بمدمني العتمة وجلاسها وندمائها. ذلك أن الحرب بين النور والظلام قديمة ومستمرة، إذ كلما أضاء المحبون الطريق وفرشوه بالورد لغيرهم، جاء الخائفون لينثروا بذور الشك على جانبيه. وجدنا ذلك في معارك الفلسفة على مدى التاريخ، عندما حاول المتعمقون في رؤية الأشياء أن يهدموا جدران الخوف وأن يفسّروا العالم برؤية جديدة، لكن جاء أصحاب العقول المتحجرة وحاصروا الكلمة والمنطق والرؤى الجميلة بستائر من الترهيب الفكري والهرطقات والأفكار اليابسة.
مع ذلك، ظلت معركة التنوير مستمرة، ومساحتها تكبر يوماً بعد يوم. إذ لا بد في النهاية أن ينتصر المنطق على الجهل، والعقل على النقل، والإبداع الجديد على التقليد والنسخ والتكرار. ومن يدخل في معركة التنوير هذه، يدرك أن الأعداء المتربصين بتزييف الحقيقة كثرٌ، يتسترون بأقنعة مطلية بالفحم ويراوغون في الظلام. وجدنا ذلك في مسيرة التاريخ كلها، وعدنا لنكتشف ذلك اليوم عندما تكشفت أقنعة الكثير من الحركات الدينية التي تسترت بالنص الديني وفسرته كما تريد لتحقيق أهداف غير دينية، وظهر جلياً أنها تسعى للسلطة وتركيع الناس وإرجاعهم لأفكار تعود إلى أكثر من ألف عام ماضية، بينما العالم اليوم يتقدم في بناء مجتمعات مدنية تتعامل مع الحياة باشتراطات جديدة يحكمها المنطق والرؤية والتخطيط للمستقبل واستشرافه.
عربياً، ظلت معركة التنوير تكبرُ أيضاً، ظهر دعاةُ إصلاح كثر وأوصلوا رسائلهم في ضرورة قيام الأمة لنيل خلاصها من المستعمر والمهيمن. ثم جاءت حركة النهضة العربية بأفكار متضاربة، بعضها يميل إلى العودة إلى الدين كخيار وحيد، بينما مالت العقول الأكثر تنوراً إلى ترسيخ مفهوم جديد في بناء الدول، والتوازن بين العلم والدين والمجتمع، وفهم علاقتنا بالآخر. بعدها انتقلت معركة التنوير إلى الداخل، وأصبحت حرب مفاهيم متناقضة، من مثل التراث والمعاصرة أو الحداثة والتقليد وغيرها. وأصبح لهذه الأفكار المتناقضة مؤسساتها. قد تجد مثلاً مؤسسة لا تقبل بمفهوم كسر إطار اللوحة في الفن، ومؤسسة أخرى تتبنى قصيدة النثر ولا تقبل بغيرها. لكن ظلت هذه المعارك فكرية وصحيّة لنهوض المجتمع وتوازنه. بينما ذهبت الحركات الدينية إلى معاداة التنوير بكافة أشكاله، وتحولت إلى منظمات عالمية تعمل وتخطط للوصول إلى السلطة لتنفيذ أجندتها في وأد النور وإرجاع المجتمعات إلى عصور الظلام مرة أخرى. وهيهات لها ذلك.