جعل الله شهر الخير والبركة رحمة لنا، وفي وطنٍ يسوده التسامح والسلام، عندما يُقبِلُ الشهر الفضيل، نستبشر به خيراً، ودعوني أسترسل في الذاكرة قليلاً، فكم سمعت في طفولتي عن أشخاص متخاصمين وطال بينهم الفراق والخصام وسمعت الساعين في القرب والصلح يقولون: «برايهم بيتراضون جريب...ما باقي شيء عن شهر رمضان»، وفهمت من هذه الجملة أن الخصام وإن طال فهناك «ليلة النص من شعبان» تلتئم فيها الجروح، وتسد ثغرات العتاب، وترتفع موازين المحبة والمودة، ويتذبذب مؤشر هرمونات الشوق، وتكثر «المشارهات» و«الشرهات» و«الخشرات»؟؟ وغيرها من مرسخات الوئام والانسجام. وعندما تتعذر ظروف الصلح في ليلة النصف من شعبان، لا تتأثر الناس بذلك، بل تنظر بكل أمل قدوم شهر رمضان الذي يعتبر امتحاناً كبيراً لإيمان الناس بالتسامح والعفو عند المقدرة، وبالفعل لا يحل الشهر الفضيل، إلا وقد تقاربت القلوب وجفت غيوم الغضب، التي تحل مكانها نسائم «الكوس» فيرتحل أهالي الفريج في سفينة الإيمان، تاركين وراءهم كل الشوائب. وكم سمعت والدتي-رحمها الله- تقول «مبروك عليكم الشهر الفضيل»، وسألتها ذات مرة عن «لماذا هو فضيل؟» فقالت: «لأن الله فضلنا على الحيوان بأن جعلنا نفكر بعقولنا، ونرى بقلوبنا، ونمشي منتصبين، ولسنا نسير على قوائم أو نزحف على بطوننا، والله فضيل، ومن فضله علينا أن غلبنا في القدر والمنزلة، ونلنا من فضله وخيره وإحسانه ما يجعلنا نعبده ونشكره ونحمده ونتمنى رحمته وعفوه ولطفه لنا وللآخرين ولا سيما في الشهر الفضيل». ومن الذاكرة الشعبية وثقافة الإمارات، وجدت كلمة «فضَّل» وهي كلمة فصيحة كنا نرددها عندما كنا صغاراً لمن وجدنا فيه الجشع والأنانية وحب الذات، إذ يقول لسان العرب إنها البقية في الشيء، وكذلك كلمة «فضَّالة» التي قد تعود للأشياء التي يترك منها شيئاً كالطعام إذا تُرك منه شيء وإن كان قليلاً؛ فنقول للمتغطرسة:«لا تتطالعيني بطرف عينك أنا مب فضالتك»!
للعارفين أقول؛ تربينا في بيئة لا تعرف إلا حُسن النية، والبراءة، والتسامح، والعفو، والتغاضي والصدق، وترعرعنا في مجتمعٍ يسوده حب الآخرين والتعاون والتكاتف ومبادئ على مثل الفزعة والثيبة والاحترام. شهر رمضان يجعلنا أجمل، فهو يزور قلوبنا، ويطمئنها بذكر الله وذكر أسلافنا الذين بدونهم لا تحيا الحياة. غفر الله للباني المؤسس، وحفظ أم الإمارات، ومتع قيادتنا الحكيمة بإبداعاتهم الإنسانية التي جعلت من دولة الإمارات العربية المتحدة منارة وقبلة ووطن إنسانية ورحمة.