في بيتنا القديم، طارت الفكرة كحمامة تبحث عن خل وفيٍّ، دخلت الخيمة الجاثمة على تراب مبلل برائحة الذين سكنوا هنا، والذين خاطوا ثوب الأمنيات من عرق الجبين، وارتعاشة اليدين، ورجفة الجفنين.
في جوف الخيمة كان هناك صندوق من خشب السدرة المعلقة بين السماء والأرض، في الصندوق خبأت تلك المرأة العريقة مرود كحلها، وأُسوار من لهفة، أهداه إياها ذلك الجهور في ليلة نزقية غارقة بترف الهمسات، ورهافة الشفتين، ونبض الرهاف في الخافقين.
وقفت، وتأملت، وتفحصت، ومحصت، وحللت، وفسرت، وعللت، وسكبت عصارة التاريخ في وعاء العقل، وكان القلب يثقب قماشة الذاكرة بإبرة الحنين، كانت الخيمة تبدو مثل كاهن خيم عند ربوة قصية تقرأ في التفاصيل مثل عراف يضرب الودع، أو مشعوذ يقرأ الكف، وكان الصمت يتمشى في الخواء المرير، ولا يتكلم غير الرهبة لمكان بدا شاحباً، ولكنه مكتنز بالرائحة العطرية القديمة، ربما كانت رائحة حناء تلبدت في أطراف المكان، أو رائحة أحجية سردتها تلك المرأة الغافية عند مهد من قطن الليالي الباردة، وكنت أنا المريد الذي يسمع لكي يطرد عن عينيه شبح خرافة مستعجلة في ليلة داكنة السواد، معتمة، ولم يكن في المكان سواي وتلك المرأة، نحصد ثمار العزلة، ووحشة الليل، ولا يخترق الصمت سوى مواء قطة مأزومة هي الأخرى بالوحدة، مكظوظة بنخوة الجسد المتقد رعونة، وعندما توقفت عند الباب المغلق بواسطة خيوط العنكبوت، والمثقب بمسامير غفت متلحفة بملاءة الصدأ، حاولت أن أدلف، ولكن صرخة مدوية انبجست من مكان ما في داخلي، وشعرت بيد تمتد وتجذبني من ذراعي، فأيقنت أنها تلك المرأة نفسها التي طالما حذرتني من المغامرات غير المحسوبة، فانسحبت وقلبي يفيض برغبة ما في الولوج في خواء الخيمة، ولكن كانت صرخة تلك المرأة أكثر دوياً، وأعظم أثراً على نفسي، فتهاويت، وتهاونت، وتماديت في الخنوع لرغبتها، وسرت عند منعطف في رواق قديم، هناك ثويت، واقتعدت مثوى لي يجنبني الخوف من خطر ما كما كان يهيأ لي.
بعد أوان قصير، تنبهت، إلى أن الظلام وحده الذي يجمع كل أشكال الصور المرعبة، فأشعلت القداحة، وجلست مكتوياً بمشاهد الذاكرة، حتى حلّ الظلام ثانية بعد أن تقيأت القداحة كل ما في جعبتها من وقود النار ففزعت ثانية، وهربت من المكان دون أن أستعيد شيئاً مما مضى.