أتذكر حينما مات الصنم المعبود في كوريا الشمالية المغلقة بالحديد ونيران الحرب، ولم يصدق السكان أن زعيماً إلهياً مثله يموت هكذا، مثلما لم يصدقوا وفاة أبيه الصنم الأكبر من قبله، فقد تكتمت كوريا كعادتها على الوفاة لمدة يومين، ولم يعلن عنها رسمياً إلا بعد تشريح جثة الرئيس الطاهرة، مضفية الوكالة الرسمية على وفاة الرفيق «كيم يونغ-ايل» مظهر التفاني والإخلاص والعمل الوطني حتى الرمق الأخير من حياة زعيمهم الذي يعتقدون أنه أفنى عمره البالغ 69 عاماً في خدمة كوريا الشمالية وحمايتها والمحافظة عليها، مرجعة سبب الوفاة إلى «ارهاق فكري، وجسدي كبير أدى إلى احتشاء حاد لعضلة القلب، وبالتالي إلى أزمة قلبية ألمت به داخل قطاره خلال إحدى تنقلاته الميدانية» وتولى القيادة من بعده الابن الثالث الرفيق «كيم يونغ-اون» المولود عام 1983 خلفاً له كرئيس «للسلالة» الحاكمة الشيوعية الوحيدة في التاريخ، إذا ما استبعدنا كوبا من تلك المعادلة، والذي يراهن عليه العالم بجنوحه للسلم والتفاهم الدولي والتغيير، مع كثير من التحفظات والقلق وعدم الثقة في ذلك العمر الصغير الذي يقوده، فكوريا الشمالية جمهورية وراثية، ما زالت تعتقد بالشيوعية، وما زالت الدول الأخرى عدوة لها، وأميركا «الشيطان الأكبر» وكوريا الجنوبية جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، ولم يفرقهما إلا الاستعمار والإمبريالية، تؤمن بنظرية المؤامرة الدولية، وتخشى التجسس والجاسوسية، لذا تعيش في عزلة تامة، متوحدة مع نفسها، معسكرة حالها للدرجة القصوى، كل شيء فيها له ميزة التفرد، وصيغة المفرد: شعب واحد، رئيس أوحد، تلفزيون واحد، جريدة واحدة، حزب واحد، زي واحد، تبني كوريا الجنوبية جسوراً وطرقاً للمواصلات والتواصل، فتقوم كوريا الشمالية بهدم الجسور، ووضع الأسلاك الشائكة، وقطع الاتصالات مع الأهل، لذا حينما نطقت المذيعة الكورية وهي تتشح بالسواد، مجلجلة بصوتها الذي يكسوه الشجن، وذرفت دمعاً غزيراً معلنة وفاة الأب الكبير، اهتز البيت الأزرق في سيؤل، وقلق البيت الأبيض في واشنطن، لكن العالم لم يبكه، لأنه لم يعترف بالعالم، مثلما كان مصير تلك المذيعة الضياع بسبب أن دموعها لم تكن كافية للحزن الكببر!
في المقابل أتذكر حينما توفي نقيضه على الطرف الآخر من العالم، رئيس تشيكو سلوفاكيا سابقاً «1989 - 1993» والتشيك فيما بعد الانقسام «1993 - 2003» «فاتسلاف هافل» في الوقت ذاته عن عمر يناهز 75 عاماً، وهو من أهم رموز ثورة أوروبا الشرقية ضد النظام الشيوعي، والتي أطلق عليها الثورة المخملية في نوفمبر عام 1989، ومن المناضلين للتخلص من سيطرة الحقبة السوفييتية، ورموزها الديكتاتورية، ومن المخططين للتحول الديمقراطي، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو قبل ذلك مسرحي وفنان، بكاه شعبه، وشارك العالم في الحزن عليه، زعيمان سيغادر كل منهما في تابوته، واحد في «بيونغ يانغ» والآخر في براغ من قلعتها التي هي مقر الرئاسة، الأول أصيب بسكتة دماغية، وشلت حركته عام 2008، وظل صنماً يعبد، وظل الناس يؤمنون باسطورته، وهو رهين العزلة، والآخر ظل يقاوم سرطان الرئة منذ عام 1996، ويعمل من أجل الوطن، لكن الفرق الحقيقي كان في وداع الزعيمين، «كيم» المحب للشيوعية الصماء، القاهر لشعبه، و«هافل» العارف بالشيوعية، والمضحي من أجل رفاهية شعبه، كانت محبة الناس هي الفيصل، وتلك الدموع الكاذبة والصادقة، في العاصمة الكورية الشمالية كان الحب بالإكراه، والدموع والورود الكاذبة، وفي العاصمة التشيكية كان الحب بالمعروف والدموع والورود الصادقة!