لست نسراً، والأرضُ تحت جناحيّ ليست هي الأرض وإنما طللٌ يحطُّ على ترابٍ فيورّق بِذرهُ، وغيمٌ يفيضُ من المياهِ ويصير مطراً فوق البراري القاحلة. وأنا، من على جبل الرؤيا، مغمض العينين موصدهما، أرى مدناً أكلتها شهوة الخراب، وبشراً يتناطحون رأساً برأس في مرايا الجدران، وجيش شياطين يطاردون امرأة حرةً تركضُ في الظلام وفي يدها شعلة خضراء. وسوف يقالُ بعد ذلك أن الفيلسوف كان يسكن جبلاً بعيداً ولا يرى شيئاً سوى العماء ولا يسمع شيئاً سوى الصمت. وهؤلاء هم الذين نخرت عقولهم جرثومة الجهل حتى صدّقوا أن الحرب مجرد مهرجان للنار، وأن السلام فكرة عرجاء ومستحيلة. ولا يحتاج الفيلسوف إلى لمس الغيمة ليعرف ما في بطنها، ويكفيه أن يرسم بعصاه على الرمل شمساً كي تلتفت له الأشجار. ويكفي أن يرمي حجراً في المياه البائسة ليحرّك في اتجاهين مجراها.
كان السلام نية وغاية الفيلسوف عندما استيقظ في فجرٍ مظلم ولم يجد الشمعة في مكانها. وتراءت له ابتسامة السكّين تلمع في الخفاء فأدرك أن البشر أسرى للرؤية الضيقة، وأن اليد التي تصافح اليوم هي نفسها التي قد تطعن غداً. لذلك ابتدع فكرة السموّ على الصغائر وراح يبحث عن جلال الروح وروعة تجليها في العمل والحب والعطاء. ومن روح الفيلسوف ولدت أولاً فكرة العناق بدلاً من الصراع، وحين خط الفيلسوف وصاياهُ على الصخور وفي الكهوف، كانت تُختصر كلها في كلمة واحدة هي (المحبة). هذا السرُّ العظيم الذي به فقط نشيّدُ مظلة سلام تكفي البشر كلّهم. لذلك صار يأتي الخائفون ورعاة الجهل والظلام ليحاربوا كلمات الفلسفة، ولذلك أيضاً يخاف هؤلاء من فكرة السلام لأنها تصهر البشر في منظومة أخلاقية متساوية لا أحد فيها يدّعي امتلاك الحقيقة بمفرده.
كل يوم، يخرج الفيلسوف من جسده الضيّق ويحلّق في الوجود على شكل فكرة شاردة، وعلى هيئة بوحٍ عذب لعاشق يرى تفتّح الوردة ويقولُ هذا وجه حبيبتي. وفي المدارس سوف تُسمى اليد التي تمتد في المصافحة بأنها يد القلب، واليد التي تحمل السكين بأنها يد أعداء الفلسفة، وسيخرج الشعراء من الكتب القديمة وفي أيديهم قصائد بيضاء تمجّد الانتماء إلى الضوء وإلى الحقيقة وتكيلُ المديح في تبجيل الأمل.
سواء وقف على جبلٍ بعيد، أو هبط بيننا في دوران الأيام، فإن المكان الحقيقي للفيلسوف هو القلب الذي يفيضُ بالرحمة والشفقة على نفسه وعلى الآخرين.