بخفة الطائر تحلق أرواحهم بالسماء، تتمزق ثم تتطهر قبل أن تنصهر أمام الجلاد، أو ترى عين الطائر ذلك الصياد المتأزم، الآتي خشية من صياد آخر رحل على وجل، ليتصور نفسه أمام مرايا الجبال، إنه الأوحد حين يشتد اعتقاداً، تمنحه الضحايا غشاوة، فلا يعي الطريدة إلا أنها لا تجيد المراوغة، فتستسلم للهرب أمام مرأى العالم، ليتحفزوا كلهم من ثورة الخفاء، أمام أغلال الماضي والتاريخ والحاضر المؤلم، ونزعة التشرد، ودائماً يحدث الرحيل من الشرق إلى الغرب.
خلفهم صورة العدم تلك، تكمن بجمالية السماء وعذوبة الماء الرقراق، وفضاء المكان، أجساد الرحيل تأهبوا نحو المجهول، قلوبهم تبتعد إلى الغياب نحو الأمنيات المبجلة بالشقاء، بل فسيفساء الأيام عنفوانها الخيال، ووعود الحلم المبطن والمؤجل، فليس كل أرض تغرس فيها شجرة تثمر، وليس لطائر الحزين عش ليفرخ.
قبل أيام رحل عن الدنيا صديق، هو أشبه بطائر حزين آخر يرحل، قد التقيته قبل أعوام بألمانيا، وتحدث عن هجرته، وأنا أوثق حديثه، مثلما عمدت على لقاءات سابقاً مع الغرباء العرب، بغية المعرفة والكتابة، وعلى بساط السحر، ربما أعيدت كتابتها يوماً ما.
كان اميلا مفعماً بحب الحياة، ووفد من العراق بداية الثمانينيات، يحمل أوراقه البسيطة، لكن لم يكن سفراً اعتيادياً، فكأن رحيله كان ينتظره بين الطرقات الجبلية الوعرة، كانت يده الواهنة تبحث عن ماء، ما بين الصخور المتشكلة، بالعطش والجوع والخوف، والشقاء كان طريقه ما بين المشي على الأقدام المتعبة، والسفر بالقطارات القديمة البائسة، حتى همس في أذنه رجال الأمن بألمانيا الشرقية آنذاك، فصادروا كل أوراقه الثبوتية، ورحل نحو ألمانيا الغربية، ليجد أوراقه في انتظاره، لا ناقصة بل تسعفه بالعيش هناك إلى رحيله من الدنيا.
لم تخلق الأوطان للرحيل عنها إلى عتبات مدن الغرب، إيحاء بأن الغربة أجمل، وعطفاً على ذلك بأن كرامة الإنسان بالغرب لا تهان، إنها فسيفساء من ثقافة تشي بأكثر من معنى، وتجلي حالة التنوير، تنسج رؤى فكرية مختلفة، ورغم ما يتجسد من بدائية مريرة هنا أو هناك، فلا شيء يقلق الكون المتحضر بالاعتدال والحرية، ومهما بلغ الحراك من فوضى وتجرد إنساني ورحيل، فالقيم باقية تأسر الإنسانية بشفافيتها، ونسيجها الحر، فمكمن الحياة في انفتاحاها وقربها الجغرافي الشامل، فلا تجاوز للمفاهيم الوجودية التي هي أساس الحياة وشعوبيتها، وهي منطلق حقيقي نحو إرادة الإنسانية، وشغف حريتها.
على ضفاف الحياة تستأنف مدارات الأمل والحرية، لترسم مكونات آتية ومزدهرة بالإنسان أمام مبادئ جمالية وإدراك ناضج ينهض ولا يخبو بعيداً.