نظر كل منا في وجه الآخر، نظرة تحمد لله شكراً، حمداً يلامس شغاف القلب، ربما هي نظرة حياتية تأملية، فما حدث كان في لمح البصر، وانتهى على خير، إنها الأقدار حين تكتب الحياة، وتهندسها في لحظات لا تنسى، وما على المرء إلا أن يقف عندها، ويبصر الحياة من عدة زوايا.
تهيأ للبوح، حين تستدرجك رحلة، تحتشد فيها الرؤى، ممتعة بسحر الطبيعة الخلابة، والمتجسدة بأنهارها وبحيراتها ومنحدراتها وجبالها، ومروجها ملهمة إلى حد بعيد، وحدائقها غناء، وروضها آسر للنفس، وفجأة تلحظ لوحة إرشادية، تلتصق ببوابة البحيرة، تشير إلى أن بقايا الطعام، قد تحدث أذى للدببة، جملة أضحكتنا قليلاً، وهمسنا لبعضنا بعضاً، قائلين ماذا لو خرجت الدببة أمامنا، بأي طاقة نجاريها، مَن مِن الزائرين قد يتمكن من صدها، وهي التي تتمتع بحريتها المطلقة في هذا الجانب، من ولاية نيوهامشر الجميلة ذات الطبيعة الساحرة، التي تجذب الزائر إليها، وتعد من الولايات الأميركية الصغيرة، التي تتشابه بمحيطها، فمن قمة جبل واشنطن الشاهق، تطل العين على سواحل كندا، وتناظر المحيط الهادئ، وتبقى المتعة حاضرة في الذاكرة. أثناء رحلتنا بالتلفريك إلى قمة الجبل الأبيض، شعرنا بهوائه البارد، يمسد الوجوه، يلامس أرواحنا شغفاً، بصوت الرياح، وأطياف الغيم، كأنها ترحل وتتهادى داكنة، تتقصى المدى البعيد.
لفيف من السياح يفدون هنا قبيل الشتاء، إعجاباً بالخريف ذي الجمال الأخاذ، والذي يحيل أوراق الأشجار إلى لون بين الاصفرار والاحمرار، واكفهرار الغيم يغدو في السماء مخيفاً، وحائراً من دون انتظار، ومدى في خيالنا، بالأنهار تعبر بين حجيرات صغيرة، يمسد وجهها الماء، مفعمة بهدوء وخرير يحرك في الذاكرة صفوها الراكد.
تستل من رحلتنا فرحاً، يعرج بنا عائدين إلى «سمر فيل»، مسافة ثلاث ساعات، لا تمل فيها بل تتلألأ بالمشاهد، وتسرد روائع تلوح أفقاً ودهشة، ترافق غيوم السماء مضطربة، فحين وصلنا، كانت نواة لحدث غريب، لم يحدث لنا قط،، تجسد في برق هوى من السماء لامعاً، ومر قريباً منا وانطفأ في لحظة مرعبة، ما أثار دهشتنا وصمتنا، وأيقظ سكون السماء، فأحالها الأمر إلى احتدام شرس، وراعد مخيف، أثار حفيظة المدينة الحالمة، التي رشقها بوابل المطر، تخلت السماء عن رذاذها المعتاد، فلم يعد يلامس شغاف الأنفس، أو يحتفي احتفاء غزلي الهوى، يهمس في النفوس، أو يتقن الحب إتقاناً بلغة الهدوء، لتستعيد «سمر فيل» سحرها، لتكشف أسرارها المزمنة وشهيتها تغزل صمتها الجميل في النفوس، لتدلي بلطف، ورقي ساحر.