بعض المدن لها صفة غبش الضباب، وملمح الرماد، مدن تحاول أن تضفي عليها لوناً من أشيائك، وعطراً من ذاكرة وقتك، لكنها تأبى إلا لون الحياد، وحين تزور إحداها، فقط لكي تسقطها من عبء أنك لم تزرها أو ربما فاتك شيء كان مختبئاً منها، فيظهر ذاك التأسف ورغبة فضول الأسفار، لكنها تفاجئك حين تصبح رؤيتها كمشاهدة أشباح الضباب، وخيالات الرماد، تمر هي وصورها المهادنة الغائبة، وكأنها تداعيات مساءات مخمورة، ولا تعلق بذاكرتك منها أي رائحة للناس والمكان، ولا يلح شيء منها على رأسك، كصباح مختلف أو مقهى يقبض على زوّاره العجلين عند ناصية الشارع أو حديقة خضراء بالناس والذكريات أو أقلها مطعم عتيق يؤرخ لسيرة المكان وأغاني العشاق، ولحظات دموعهم، أين سكير الحي، يتبعه كلبه؟ لا مشاغبات لأطفال واعدين بالضجيج والسفر البعيد، لا امرأة مختلفة تمر من هنا، لا جدران لها رائحة التاريخ. 
في مثل تلك المدن ترى أشياء العالم لا أشياءها، فتغيب عن الرأس، وتغيب الدهشة، فلا تتوقع أن تتوقف عند شيء معجباً أو غاضباً، تسير في الطرقات فلا تتوقع غير باص قادم أو سيارات مسرعة أو محل تجاري من عدة طوابق يقبض خاصرة الشارع، ومصرف صارم، وفوقه شركة تأمين لا ترحم، لا يمكن أن يفاجئك تمثال لبحار غامر باتجاه البحر والرزق والزرقة أو شاعر كان صديقاً للشجر ومنشداً لوهادها وهضابها، وما يمكن أن يمزق القلوب ساعة التخلي، تتجول ولا يمكن أن تتعثر فيها بأي حجر على الطريق، تاريخها متماهٍ مع دول الجوار أو منهوب الروح، فكل شعب احتلها ثم ذهب منها بعد ذلك حاملاً تاريخه الذي كان هناك معه، لا جغرافية غير شتاء غاضب ملتح بالبياض، ويمكث طويلاً كدهر على الصدر، لا ثمة بطولات يمكن أن تفرح المدينة طويلاً، وتطرّز مساءات الأطفال، وتجعل أحدهم فارساً لصبية تتعاطى من الحلم بأول التماسات الأنثى التي تكبر، وحكايات كـ«لبان الملائكة» تلوكه العجائز لأحفادهن ما قبل ساعات النوم، في مثل تلك المدينة لا راسيات لحجر يعاند الدهر، ويظل شاهداً حين يتلاطم الموج، وفزّاعة موت للغادرين المتسللين تحت جنح الليل، لا كنائس لها عطر الغيب وكلمات السموات، وبرودة الحجر والخشب والسكينة، لا شيء فيها مختبئ يهمس في آذان المارين أن له صفة التمايز والمغايرة، لا شيء فيها يقول لك: «قف.. أنا مختلف»! 
كثيرة تلك المدن التي تشعرك أن أشياءها لها صلابة البلاستيك الذي بلا معنى أو تلك الرخاوة المملة حد الضجر، ليس هناك تكون أو صلصال معالج وطين، أغلب الأشياء هلامية بحيث يمكن للمدينة أن تفلت من يديك، ولا تتأسف على شيء.
تجوب تلك المدن التي تشبه الـ«سوبر ماركت» بارداً ومجوفاً، وتتمنى لو أن لها علامة فارقة، فقط حين تعطب الذاكرة، ويحتاج التذكر لشيء له شذى امرأة من هناك أو مساء معتق بالعنب والمطر، وصوت «ساكسفون» يخرج ما في صدره لليل الماطر، أي شيء يحتفظ به الشيخ الفاني المتفاني، وهو يعد خطواته الصوفية نحو المدن والناس والحياة والوجد، متعكزاً على عصا تقطع به نهار المسافات! ونكمل غداً.