كأنك في الصبح طير، تنفش ريش التألق، وتنتفي من الحياة أجمل ورودها، ثم تبتسم، ثم تلتئم، ليضمك الوجود بجود، وتذهب مع الريح، حيث تخيط الشمس قميص فرحتها وتغدق الكون بمصابيح نهارها، وقبل أن ترحل ترسل مظاريف مكاتيبها، مودعة الوجوه المتأملة، بنخوة الشرفاء، وخصلة النبلاء، وسمة الأوفياء، وصفة النجباء، وأنت في ذلك الحفل ترنو إلى الشجرة التي انحنت للزمن، تفتش عن خطوات كانت هنا، عن أنفاس أنعشت جذرها، وجذعها، عن وجوه طالما تعلقت بنبقة في الغصن، فأطلت، وأينعت، وأطلقت دوي الأحلام، وانطلقت في الوجدان كأنها الرعد يبشر بغيمة ممطرة، كأنها الموجة تشير إلى ملحمة في اللجة.
وأنت تنضد الخيال، وتصفد أحلام طفولتك، تعترضك لحظة مباغتة، كأنها الصخرة الكؤود، فتبهت، وتشهق، وتفتح عينين، زائغتين، وتزم شفتين، ومن بين يديك تسقط حبة قمح في وعيك، تحاول أن ترتجل أنشودة الصباح التي تعلمتها في المدرسة يوم كنت في نعومة الأظفار، تحاول أن تتذكر شيئاً من ذلك الزمان، ولكن الغبار كثيف، والسعار له ضجيج آلة الطحن، ولم يبق لك من برهة للتأمل في شكل تلك المنحنية، القابعة عند زاوية في القلب، وأنت تتقمص دور طفل شقي يود أن يختلس نبقة القلب، ولكن الشجرة التي كانت تحمل ذلك الكنز، توارت، واختبأت خلف ركام من فقدان الذاكرة، تلاشت أوراقها الخضراء، وذوت، وانعكفت الأغصان، كأنها أذيال مذعورة، كأنها أنصاف عملات فقدت صلاحيتها، كأنها أحلام جفت أرغفتها، وبترت، وتعجرفت.
فكرت ملياً، وأنت تطالع الشجرة، بل كانت هي تطالعك، وكأنها تنوي عناقك، لكنها لم تجسر، لأن جذعها القديم، لو انحنى زيادة، فسوف يفقد صوابه، وينكسر، كما وتنكسر أنت خذلاناً وضياعاً في مراحل ما بعد الفراغ، في بوتقة الأحلام الذاهبة إلى أسفل الجبل، أحلام تقلم أظافرها ذاكرة مثقوبة، وصور شائهة لطفولة وقعت تحت السجادة، مغموسة بالغبار.
كأنك في الصبح مثقال ذرة في معيار الأمنيات العملاقة، ترسم صورة تلك البئر التي كانت في فناء البيت،
ولكن من دون ماء، فقد امتص الزمن كل الرحيق، واستل دلوه ليمسك بزمام المرحلة خالي الوفاض.
كأنك في الصبح جريدة دهرية، مطوية، يلفها حبل القدم، وأنت الذي تنظر إلى الأشياء كأنها مخلوقات بريئة، تشعر بالأسى لأن خبراً ما طوي بين صفحات التاريخ، هو خبر اعتناقك الحلم، كجناح يحميك، ويحملك إلى الأفق الأبعد، فتنتهي ضالتك إلى مساء يضاء بمصابيح الفرح، وتذكر الأحباب الذين خانوك، واندثروا كما تندثر الأشياء الثمينة عندما يصبح الحب ورقة عجفاء، صفراء، جافة.