كان لا بد أن ينتشي، بدأ من الفجر، أبيض ثلجي هادئ الزحف يطوق المدينة وشوارعها ليلهمها أن تتجلى بأنفاسه الباردة، كأن يلبسها خفية، ويزين أشجارها، التي جردها الشتاء، كما لو تساقط من السماء، ليلبسها رداء الدفء، يسقط عليها لمساته، زهاء الساعات الطوال، لم يتوقف إلا على عتبات المساء، جر ذاكرتي نحوه، التقيته في عدة مدن زرتها من قبل، ومجدداً التقيه بسمر فيل، وبوسطن وكأن بيننا حميمية وشغفاً جميلاً، في مشاهد زمنية مختلفة، يتوازى مثلها حنين الناس للمطر وحب الصحراء.
بدأ الصباح وتجلى بهذا البياض المهيب، وأنا أرتشف قهوتي الساخنة بالمقهى، أمام إطلاله النافذة الباردة، التي فتحت شهيتي لقراءة رواية دفاتر الوراق لجلال برجس، بدأت النوافذ تُغلف برذاذ الثلج، وتحت الأشجار كانت تختبئ العصافير، وتنقر بمنقارها الثلج، لعلها تحتفي بشيء من بقايا الطعام، فقليلة هذه الأشجار التي تحتفظ بوريقاتها أمام هيمنة الشتاء. وقدر للناس ليلبسوا ما لديهم من صوف غليظ وثقيل ليورثهم الدفء المنشود.
لم تهدأ الجرافات، فمنذ فجرها وهي تجرف الثلج من الطرقات وتكومه في زوايا المدينة، رتم حثيث ما بين تساقط الثلوج وجرف العمال، حتى بدأت الطرقات لا تعاني من إعاقة الحراك المعتاد، وما لبثت المحلات التجارية حتى فتحت أبوابها، ومارس الناس حياتهم الطبيعية من التبضع والتسوق.
بحيرة نهر مياس بدأت جامدة يرسم الثلج حولها لوحة خيالية، تشكلت من طيور البجع والبط، وتقاسيم السماء تنعكس عليها كأنها مرايا زرقاء، برتوش بيضاء، وهدوء أخاذ بدأ يمنحها سحراً، بينما رتم خطوات الناس بدأت تعاود الحضور بين الممرات، بعد جفاء وانزواء بدفء الأمكنة. في حضرة البياض، ترى صورة حقيقية للحياة والطبيعة، وترى الجمال أرق، حين تسألك فتاة لا تعرفها، إذا ما كانت الطاولة التي بجوارك شاغرة، وترد دون مبالية، تنغمس في طور الرواية، تقرأ دون التفات لها، لكنها تصر على السؤال، وكأن الجواب دون التفات لها لا يعتبر جواباً، فالطاولة شاغرة، والنادل لم يعتنِ بها، ربما لسهو منه، والتفتُ أنظر لها وأنا ممعن بالشعر الأشقر المفعم بتسلسل جميل، ووجهها النضر لم يمسد بعبوات التجميل، ونور عينيها يجذب الثلج ويتوق إلى الحديث معها دون تجرد، تحضر المدن في الحديث وطور سياقها، ويحضر مواقيتها ونسق إيحاءات معرفية من زائر مثلي يتوق لمعرفة البشر وطقوس الحياة، فكانت رغبتها شديدة في الحديث الممتع، وكأنها تصور المدينة لتبلغ مداها، ما بين أحداث تاريخية واجتماعية ثقافية، يحتفى بها شهرياً مثلها والمدن الأميركية وسكانها المحبين للحياة.