يموتُ الفيلسوف معزولاً في كهفٍ بعيد، لا يراه ولا يسمع عن موته أحد، لكن كلماته وأسئلته الحارقة تكون قد سالت على الصخرة فأذابتها، وتكون روحه قد اتسعت في رفيف الأشجار وأجنحة المسافة ووصلت إلى قلوب الباحثين عن اليقظة ولذة الاكتشاف. عن ذلك السر الوجودي الذي كلما اقتربنا منه صار يبتعدُ في سراب معانيه الغامضة. وكأننا حين نبحثُ عن سبب وجودنا، نصير في النهاية ظلال الفيلسوف وبقايا وعيه السارح في الكون. ندخل مدارس الطفولة، نفتّش عن إجاباتٍ بسيطة، فيدربنا المدرسون على الطاعة والصمت. ونفتحُ كتب الماضي كي نتجمّل لمستقبلنا، فلا نجد فيها سوى سيرة الغدر متكرراً في ألف يدٍ تطعنُ في الخاصرة، وألفٍ أخرى تدسّ السمّ في القواميس وتقلب المعنى وتزيّف التاريخ وتكتبه كما تشاء.
مع ذلك، يظل الفيلسوف ينبشُ في الرماد لاكتشاف جمر الحقيقة وحمله في راحة يديه غير مكترثٍ لو أحرقته مصافحة النار.. وقد نراهُ متهماً بإشعال فتيل الانتباه ومحكوماً عليه بالسم. لذا، فإن من يتعاطى كلمات الفيلسوف قد يعرّض نفسه للتهلكة والمروق، ومن يجالس أفكاره في خلوات الليل، قد يُرمى في الصباح بتهمة الجنون. أما إذا تُرك الفيلسوف حراً، فإن الخيول الطليقة في البراري ستلحق به، وسترقص الغزالة أمام عين مفترسيها، وسيقال عن الحياة إنها مجرد كتاب مفتوح، ولكن لا أحد يجرؤ على خط سطرٍ في بياض حواشيه.
هناك علاقة ما تربطُ ما بين الحقيقة والفيلسوف. كلاهما غير قابل للاحتواء. يقول الحكماء إن الحقيقة واحدة، ولكن لها ألف وجه وكلٌ يراها من زاويته. ويقول القضاةُ: عليكم بالمشي في طوابيرٍ مستقيمة كي تدركوا النجاة، وأي خروجٍ على النص هو سقوطٍ في الزلل. ونحن نسأل: أين الطريق التي إذا سلكناها، نصل؟ وفي الأصل قد لا توجد نهاية ولا وصول. وكيف نفرّقُ بين رجلٍ صامتٍ يختار أن يعيش في الزاوية والظل، وبين الرجل الذي هشّم به زجاج السراب؟ وأين تنام الحكمة؟ هل في الكلمة المنطوقة جهراً، أم في صمت الرهبان المنطفئين في الجبال البعيدة؟
كل خطوة في طريق الفلسفة، هي دخولٌ مرٌ في مسلك الأسئلة الشائكة. قد تعود منها يوماً ممزقةً قمصانك وأنت حر، وقد لا تعود ولكن يكون قلبك قد ذاق فيها عذوبة الهلاك الجميل.