من عرف التأمل أيقن بالإيمان، وبلغ الصفاء، لأن لاشيء يعدل التأمل، ولا بلوغ الصفاء في الحياة، إلا حين تكون النفس مضطربة تتقاسمها لحظات الحزن والفزع والوجع أو حين تسكن النفس، وتغدو مطمئنة، لا رجس، ولا إثم، ولا فجور، ولا بغية ظلم، ولا فيها ما يرجفون، تكون طاهرة كالماء، ظليلة كالغمام السائر، بريئة كطفل في القماط، تعود لنشأتها الأولى، وتكبر شجرة الخير فيها، وتدثرها تلك العطية الإلهية التي تجعلها كالطير تروح خماصاً، وتغدو بطاناً، شيء يدعى القناعة، محظوظ هو من تهدى إليه أو من يهتدي إليها، حينها يصبح التأمل شيئاً من النسك والزهد والدعاء الذي لا تملّه النفس، ولا ينقطع، هو تراتيل مقدسة في هذا الكون المترامي، والذي فيه من الجمال والسماحة والنور والرحمة الكثير، غير أننا لا ندركه، لكون النفس لم تهذّب، ولم تقوّم، وبقي فيها من صفتها الأمّارة بالسوء.
جال بصدري الذي تضيق به صغائر التفاصيل، وتثقله شاردات الوقت، هذا الهاجس الروحاني، وأنا أعتلي هام السحب، ملتصقاً بنافذة باردة، هي مكاني الأرحب حين أكون معلقاً بين السماء والأرض، على كف طائرة وجهتها مطلع الشمس، حيث يسعفك حظك في أن ترى فجر ربك وهو يشق الفضاء فارشاً للشمس رداء من أثير، وثمة سحاب مركوم يسابق بعضه بهيام في تلك الآفاق، يقترب كطائر تزاغيه الريح، ثم ينفصل لعله يحمل قطراً وبركة لمكان بعيد، لوحات بيضاء كندف القطن وأشد، تتشكل، سابحة، هائمة، مغادرة في سبحانيتها، كدعاء يستجلب الدمع في عقب كل صلاة، يا لذة ذاك التأمل الذي تشعر به بارداً في الجوف! وثمة ارتواء لا يخالطه شيء، والسماء وبروجها والطوارق، هي سجادة صلاة لكل المؤمنين الصادقين الذين يرون طريق إيمانهم صعوداً، تخطه نجوم وكواكب سيّارة لا متناهية، وتدل كل من لا يريد عتوّاً ولا نفوراً على كنه المعرفة، ومواطن الخير والحب والجمال.
لا ينبغي لهذا النهار أن ينتهي، وليته طويل كدهر، تريح صفحة خدك الملتصقة بتلك النافذة الباردة، وترى من علوٍ منخفض بدائع تلك الجزر المغروسة في البحر، الزاهية بأشجار دائمة الماء واللون، وقباباً من الأرض نافرة تتشح بالخضرة، ثمة قطع من جنان متفرقة، وكأنها للتو نزلت من علياء فردوسها، لا يحرسها إلا الماء، ولا تهتدي لها السفن، لها تسبيحها، ونشيدها الدهري، ولا يمكن أن تقول شيئاً للإنسان إلا ما غرّك بربك الكريم!
ينتهي نهاري على الأرض، مقابلاً جبلاً، ما زال يحتفظ بجزء من عمامة الدرويش البيضاء، داعياً السحب ألّا تغيب عن ثلجه المتبقي منذ الشتاء. للجبال حضور من هيبة أبدية، هي مكامن أسرار الألواح والدُسر، وما خُط على القرطاس من حكمة، ومن حبر، ملاذ العابدين، ودمع الراكعين، الساجدين، الباحثين عن نور، وعن بصيرة، وعن فكر، كان ذلك نهار.. من صفائه حسبته شهراً، وتمنيته دهراً.