في هذا اليوم.. يوم افتتاح معرض أبوظبي الدولي للكتاب، ارتأيت وجوباً واستحقاقاً وتقديراً أن أرثي بائع الكتب والصحف، وأحد حراس الثقافة في الأردن والعالم العربي، ووزير الثقافة الشعبية الأردنية كما كان يطلق عليه، وأحد أهم الورّاقين و«المكتبجيه» في عالمنا العربي، بعدما ودعنا العم «مدبولي» قبل سنوات، تاركاً ذلك الرصيف يحكي عنه، وعن سير الناس الطيبين الذين يحملون على أكتافهم كأفراد تنوير العقول، والحث على القراءة، وجلب المعرفة، وإشاعة شيء من الخير، وجزء من الفرح والدهشة والسعادة في نفوس الناس، تلك أدوار لا تقدر عليها وزارات ومؤسسات الثقافة في كثير من البلدان، قام بها رجال قدّوا من عمل وتعب وتحد، بقوا هم وحدهم، لأنهم علامات فارقة في حياتنا الثقافية، وغادر في حياتهم عشرات من وزراء ومسؤولي الثقافة ومدرائها الإداريين، ومدعي الثقافة، دون أن نتذكر لهم اسماً قبل الفعل، المجالد من أجل الثقافة ليس كمثل المُكاتب الذي يتخذ من الثقافة وظيفة، وليست مهنة، لذا عاش أولئك الرجال الذين بدأوا من على أرصفة المدن، وشوارعها، يتأبطون الثقافة وما تحمل بطون الصحف والكتب، يحملون  المجلدات على رؤوسهم ليوصلوها للرؤوس، كان شقاء حقيقياً منهم من أجل النور والتنوير.
 «حسن البير، أبو علي» بائع الكتب والصحف على رصيف في عمّان، وصاحب «كشك الثقافة العربية» في وسط عاصمتها، واحد من الذين يجب أن ترثيهم المدن، وتتوقف أمام مشهدهم  معارض الكتب، عرفاناً بجميل صنعهم، وشجاعتهم، وتسامحهم وسماحتهم وتضحياتهم من أجل المعرفة، وتمكين الثقافة، والحرص على توصيلها لنطاق واسع من الناس البسطاء، وعبر سنوات من الصبر والحريق والرماد، كان هدفهم المعرفة، لا الربح والمرابحة، غايتهم ذلك الذي قد يبيت على الطوى من أجل أن يقرأ كتاباً مستعاراً أو مقروءاً أو يتشارك مع عائلات في قراءة مجلة أو صحيفة قديمة عبرت كثيراً من الحدود والأسلاك الشائكة لتصل لمدينته.
هكذا.. كان يفعل «أبو علي» حيث يتردد على كشكه الذي استأجره من نقابة الصحفيين عام 1978، بعد تلك المشاوير الحافية، وبأحذية استهلكتها الأقدام التي لا تحب أن تتوقف، وتسعد بسلوك النهج والأزقة ومصافحة الناس بشيء من القراءة والمعرفة والثقافة، وجميل الدهشة.
مشاوير «أبو علي» بدأت عام 1951 من شارع فيصل وسط عمّان كبائع صحف وكتب متجول، كان شاباً صغيراً، وحين شعر أنه كَبِر وكَبَر استقر في ذلك الكشك الذي يعرفه سكان العاصمة وأنحاء المملكة، وزوارها من مختلف عواصم العرب، حتى أصبح الكشك وصفاً ينعت للغريب عن المدينة، فلا يضيع أو يتوه في زحامها، زاره الملك والملكة والرئيس ورئيس الوزراء والوزير والمثقف والفنان والصعاليك ومجانين هوسوا بالشعر، والمدّاحون عشاق النغم، ومحترفو فن الصورة، والمدونون الذين لا يحبون أن تفرط الأشياء خلل أصابعهم أو من أياديهم، جميعهم رأوا ذلك المكان، وتركوا فيه شيئاً منهم، تعب محابرهم، ومداد أقلامهم، وأبياتاً من قصائدهم، فعلوا ذلك لكي يصمد «أبو علي» في وجه المقاول، وحديث النعمة، والمهاجر الممتلئ، وأمين العاصمة ومحافظها الذي قد لا يعرف معنى الأمانة لأشيائها، ولا يدرك معنى المحافظة على أشيائها.
وقف «أبو علي» طوال سنوات من الكفاح جلباً للنور، ودفعاً للظلمة، كان سلاحه فقط تلك الصحيفة، وذلك الكتاب، وأولئك النفر من المحبين، وهم كثر، يتوزعون في الداخل والخارج، هم حرّاس حارس المدينة وثقافتها، «أبو علي» الطيب.