بدأت رحلاتي نحو دور الكتب والبحث عن قديمها ومخطوطها والمغاير والمختلف منها،  منذ أن صارت الأسئلة تسبق الأجوبة، وصارت هي المحرضة، لذا كانت رحلة الحروف التي تعنيت لها قاصداً دهشة المعرفة، وصهيل الأسئلة، كانت رحلات باتجاه المدن، عرفت أرصفة الكتب فيها، كما عرفت الورّاقين، وعرفت أشهر الباعة، عرفت الأكشاك في المدن الكثيرة، أرصفة في شارع السعدون ببغداد، أرصفة في الدار البيضاء، وفي الحبوس، على سور الأزبكية في القاهرة، عرفت المكتبات القديمة، مكتبات دمشق وتونس وصنعاء، ودور النشر في بيروت، مكتبة القدس القديمة في العين، وصاحبها الذي يبدو كمعلم صلب من طينة المعلمين الأولين المعارين، والذين لا تسمح لهم وزارات بلدانهم عادة بغير عقد لا يزيد على سنتين في الخارج، ثم انتقالها بجانب دوار الساعة، حيث مرات كنت أرى المغفور له الشيخ شخبوط يأتي إليها يسأل عن كتب جديدة، وصحف ومجلات عربية أتت متأخرة، اليوم غابت مكتبة القدس، ثم غابت الساعة بدوّارها، ساحة جامع الشيخ هزاع في المعترض بعد صلاة الجمعة، حيث يفترش باعة كتب غير مرخصين، يعرضون كتبهم الرخيصة نوعاً ما، وخاصة الدينية و«الموجهة» والمعبرة عن مأساة جماعة التدين السياسي، وكتباً من تلك التي يتبع بيعها أجراً حسناً - كما يُظن- عرفت مكتبة الثقافة الجديدة - على ما أعتقد- في شارع المطار، غير بعيد عن فندق «ستراند» القديم في أبوظبي، وضمها لكتب كثيرة، جريئة وممنوعة، حين لم نكن نعرف الرقابة ولا التصنيف، عرفت معارض الكتاب في العالم، مكتبات الكتب المستعملة في باريس ولندن، عرفت شارع المتنبي في بغداد، عرفت كشك «حسن أبو علي» الشهير في وسط البلد بعمّان، وحكاياته مع المثقفين، وقارضي الكتب، الحاج «مدبولي» ومكتبته وما تخبئه من كتب، ورصيفه الذي تركه بعد عمر طويل عرف العالم منه، وعرفه المقيمون والعابرون على القاهرة من خلاله، لقد كبر الرصيف، وصار مكتبة، لكن العجوز مدبولي كان يجلس في الداخل على كرسي غير وثير يراقب ذلك الرصيف الذي بدأ منه الشقاء، وبدأ منه الغنى، «أبو مصطفى» في مكانه الصغير على جدار من جدران القدس العتيقة، حتى صار هو والجدار أخوين، «ناصر الشرعبي» شاباً وقد خبر البلدان، ومكتبته الأولى والرائدة في أبوظبي البراءة وسماحة الطيبين، وحينما كبرت المدينة وتعصرنت، أحرقت تلك المكتبة القديمة، وتبعها «الشرعبي» شيخاً يجر خطواته إلى مكان جديد وبعيد وخالٍ من الأقدام الحافية الذاهبة للقبض على كتاب. في مدن كباريس تصبح عادة التوقف أمام المناضد الخارجية للمكتبات، والتسمر أمامها، وأمام ما تحمله من كتب قديمة ومقروءة وكتب يراد التخلص منها، ومجلات منسية، وجالبة للذكريات، شيئاً محبباً للنفس، ومروضاً لها قبل اللهاث وراء القطار المتجه بسرعته للحاق بساعة الجامعة، وفي أيام الإجازات تكون للأكشاك الصغيرة المزروعة على جانب نهر السين، وما تخبئه من قديم الورق والحبر، فرحة الدوس على العشب الأخضر المبتل، ومتعة المشي بكسل، وفضول قراءة الوجوه، وحركة الزمن عليها. 
لقد كانت رحلة جميلة نحو وهج القلم، وألق الواو، وأرق حرف النون.. ويكفيها من متعة!