كانت رحلة الحروف ومدّها ومدادها رحلة جميلة، وطفولية باتجاه وهج الكلمة وسرها المعرفي، وفعلها المشاغب في الرأس، بدايات قدرت أن تسحبني إلى صف الورّاقين مبكراً، وهي اليوم مسألة لا أتمنى أن أعيش غيرها، وبدونها، إلا أن تكون رحلات في البحر طويلة، سماؤها زرقاء، وبساطها أزرق، ندق من خلالها بوابات المدن، مشرّقين ومغرّبين لنظفر بوجبة ما خطرت على البال أو امرأة تشاركك فرح الحياة ببراءتها من دون أن يكون للجسد رجسه أو إثمه، نقبض على الفجر مبللاً بالنور، أو نتسيد المساء قبل أن يكتحل بسواد الليل، هي أمنيات للعمر الخريفي، حرّضها الكتاب، ورحلة البحث عنه، والفرح به، والسكون إليه.
ما تبقى من صور الطفولة المغبشة، وفرحها بالورق والوراقين، صورة ذاك المطوع القابع في بطن نخيل العين، وغرفته الطينية الباردة، و«الروزنة» المكتظة بالكتب التي لها رائحة «البضاعة» المنثورة بين دفتيها، والورق القديم، تنتصفها ريشة طاووس لمعرفة القص، ودلالة التوقف عند الصفحة، وما وصلت إليه القراءة، كان الناس يقولون عن ذلك القارئ الناسك: إنه قدر أن يقرأ كتاب «الغزالي» ولم يجن، والجنون ربما كان يعني يوماً الفلسفة، بقيت سنوات طويلة أبحث عن كتاب «الغزالي» لأثبت أن العقل أكبر من طلاسم الحرف.
في نهاية الصفوف الابتدائية، زار مدرستنا رحّال سوري، اسمه «عدنان حسني تللو»، جال العالم على دراجة نارية، وكان يحمل معه كتابه الذي أرّخ فيه رحلاته، اشتريت الكتاب الذي تتعدى صفحاته الـ 500 ورقة بدينارين بحرينيين، تمنيت حينها أن أقلده في رحلة الجغرافيا، ورحلة الحروف، قرأت الكتاب لكنني لا أعرف كم مرة قرأته!
في ذاك العمر شغفت بقراءة قصة «مريم الزنارية» وسيرة عنترة والكتب التراثية الشعبية، ثم اصطادتني الروايات الفرنسية وقصص الفرسان النبلاء المترجمة في لبنان على عجل في طبعاتها التجارية، بعدها عرفت عوالم نجيب محفوظ وقاهرته التي صنعها بنفسه حتى كبرت، ومن ثم تسلل الشعر المحرض على قلب القوالب وتكسير الجمود، الذاهب بالنفس البشرية نحو آفاق التحليق والسمو والاعتداد.
في تلك الفترة الإعدادية والثانوية كان هناك مدرس لغة عربية يعرف كيف يحرض على فعل الخير والقراءة، وكان هناك مدرس دين قليل الإجابة، وكان هناك فتى كثير السؤال، مليء بالتساؤل، وكان هناك معلم تاريخ ينفخ في الأجساد الطرية نحو عروبة غائرة في التاريخ، وفتح إسلامي تسيد الجغرافيا وخلق حضارة زاهية، وكان هناك مدرس رسم جميل بصّرنا أن هناك ألواناً في الحياة غير ما نراها، وأن هناك جمالاً في الفراغات، وكان هناك مدرس موسيقى عرّفنا أن بعض المباني الباقية، أساساتها كانت الموسيقى، وكان هناك مدرس جغرافيا لا يمل من الحكي، ولا أمل أنا من الاستماع، وركوب الحلم إلى تلك البلدان وأنهرها الكبيرة، وكان هناك مدرس تمثيل مسرحي مصري جميل يشبه «الباشوات»، ويشغل في وقت فراغاته المسرحية واصفاً للكتب، دالاً على الخير فيها، يومها تعددت القراءات في الدين والتاريخ والمسرح والفن وأحداث العالم الذي بدأ يتغير، ونحن نقاوم!