معيار الثقة بالنفس لدى المبدع ركيزة أساسية لاستمرارية إبداعه أو اندثاره، فحسب هذا المعيار، تتسع لديه مساحة التفكير الإبداعي، فلا يتردد في التجول خارج حدود المألوف ولا يقبل بالمعتاد، ولا يعبأ بالأسقف الافتراضية التي يفرضها محيطه.. غير أن هذا المعيار، ليس دلالة -إطلاقاً- على وجود الإبداع أساساً، فكثيراً ما نجد حولنا من يتمتعون بجرأة كبيرة في تقديم أنفسهم وبأشكال متعددة وفي كل الأوقات، غير أنهم يفتقرون إلى الإبداع!
انشغل المتخصصون في التربية وتطوير الذات لعقود طويلة بنشر فكر أهمية تعزيز الثقة بالنفس لدى الأفراد، فأصبح الشغل الشاغل لهم، دفع الناس إلى النظر لذواتهم بطريقة إيجابية، فجعلوهم يثقون في أنفسهم ولا يترددون في إبرازها للآخرين، ولكن -للأسف- في طريقهم لإحداث هذا التفوق، لم يتوقفوا عميقاً حول حقيقة تلك القدرات والموهبة التي يملكها الناس بالفعل، وهل لديهم ما يستحق أن يُقدم للآخرين.
في خضم هذه الفوضى، أصبح لدينا عدد كبير ممن لديهم ثقة بالنفس، ويملكون جرأة «مفرطة» في الظهور، وعزز من ذلك وسائل التواصل الإلكترونية التي جعلت كل من أراد منصة خاصة به يعرض عليها نفسه في كل مكان وأي وقت، بالإضافة إلى تزايد جمهور هذه المنصات «المجانية» ممن لا يميزون بين ما يستحق أن يتابع للتهكم عليه أو ما يجب أن يرصد للاستفادة منه، والأكثر سوءاً من ذلك اعتماد معايير اقتصادية للحكم على قوة هذه المنصات بحساب عدد متابعيها بدل معيار جودة ما يقدم فيها، وفي مقابل ذلك، تراجع الكثيرون ممن لديهم ملكات ومواهب حقيقية عن تقديم أنفسهم خجلاً أو خوفاً بسبب قلة ثقة.
الحقيقة التي علينا الإقرار بها، أن الإبداع «بَكِج» كامل، موهبة تتسم بالأصالة مصحوبة بإرادة.. وثقة كبيرة بالنفس يجب أن يحظى بها صاحب هذه الملكة لكي يتجرأ ويظهر أعماله للعلن، وقدرة على مجابهة الآخرين، ليس للدفاع عن عمله فحسب، وإنما أيضاً لتأكيد حقه في أن يكون له منصته ومساحته التي يعرض فيها ذلك الإبداع. وهذا الأمر هو مسؤولية المبدع وحده، ولا يُلام غيره عليها. 
وأكاد أجزم أن التاريخ الإنساني تجاهل الآلاف من إبداعات البشر، ممن فقدوا هذه الثقة بأنفسهم فلم يبادروا بإخراجها للعلن، فما بالك بالدفاع عنها والاستمرار في إنتاجها وتجويدها؟!