إلى صديقي محب الشعر الوله إبراهيم وشاح، الذي توشح بأشعار النواب، وقافيته، كنا نرتشف منها قهوتنا المسائية، ولا نشعر بمرارتها، أو بمذاقها، وبرائحتها تمرر العبق الشعري، لتجاذبه مفردة تلو الأخرى، كانت ملء صدورنا، بصورها الشعرية، وقد أينعت في سحرها. وفي وجدان الشاعر، كان ينبض قلب العروبة في خياله الشعري، لتمضي به العواقب من دون تريث كأن أنهار دجلة والفرات وطن، يعيش على ثمالة الغربة والصبر والتشرد، ليتماهى الشعر بين قوافيه، وعناوين للنسيان، وفي لغته تجد حزناً مريراً على الأبواب الحائرة، من هجر الأوطان، وسراباً لا يطرق الأحلام البعيدة، لتفوح من أشعاره رائحة الفقراء وخبز القرى البسيطة.
لا يمل مظفر من نداءات الزمن، ليخلق من الوجوه العابرة قصيدة، وبالتحديد تجلت قصيدة حمد ذات جمالية المعنى، وروح العشق في اللهجة العراقية الأصيلة التي أشبعها النواب غرساً، وأنبتها عرساً وألبسها حزناً بمفردات القيم، والنباهة الفكرية العظيمة. تارة يعزفها ألحاناً وتارة يهبها للغناء والطرب، لأنه مظفر الذي يتجسد في القصيدة حضوراً وكناية رصينة، ويعتصر منها ما يشاء من النكهة أو يزهر فيها من أنداء الحروف بريق المعنى، فلا تجده عاشقاً إلا أنه يتأثر عشقاً، لا تجده يعيش في وطنه لكنه وطني، لا تجده إلا ثائراً يحرك ثورة وجدانية في كل أطياف الحياة.
يرحل مظفر النواب عن عالمنا، رحيل ينتمي لرحيل الفلاسفة وأساطين الكلمة، فما أجمل أن تحضر في ذاكرتنا بعد هذا الغياب المتدثر بنسيج القصيدة، وفي خيالها أطفئت الشمعة، بصمت يشبه جمالية وكأنك لازلت تتمادى بصوتك، الطوفان الهادر من صوت الغربة! كم كنت تداعب القصيدة بصوتك المندفع الجارح، دون أن تخشى جرحها، دون أن تعلم كم يهيمون في وجعها، ها أنت لا تصمت بل الكل يصمت، فمنذ زمن لم تستحضر القصيدة فيك، وأنت وقارُها الكبير، وقار الشعر، هل صمت الدهر في خيال الشعر أم ارتبك الشعر خوفاً من صمتك الأخير؟!
لست وحدك يا صديقي إبراهيم، من يسكن في دمه شعر مظفر، لست وحدك يا وشاح من يعيش في وجدانه هامة الشاعر، حتى لو تراجع عن دفاتره وقلمه، يظل يغلب الذاكرة ويفجر النسيان من صخوره ويتدفق كالنهر يلملم ما تبقى في القصيدة، لتزهر في الماء وفي النار، لتشعل المدى وتكتب بالغناء، وبالحسرة، إرث الشعر في الحياة بعد إمضاءات كثيرة على ذاكرتنا الشعرية، يكفي لقائي لمرة واحدة، في أبوظبي جسد كل هذا الضوء الشعري، أضاء قامة أدبية على مدى بعيد.