بعد إبهار العالم بإكسبو دبي، ها هي اليوم دبي تنزع لثامها لتحكي قصة نجاحها المتواتر في المجالات كافة، وقصة الصبر على الأشياء الجميلة، والأحلام الكبيرة والبعيدة، كيف يمكنها أن تتحقق في حضنها، قصة جديدة وحضارية تستلهم سورة «اقرأ»، بأيقونة معمارية مستلهمة من التراث العربي والإسلامي والإنساني «حامل الكتاب»، عنوان مكتبة محمد بن راشد، تلك المنارة الثقافية والحضارية لتنضم لأخواتها من المعالم الثقافية والفنية في هذه المدينة العالمية الاستثنائية، بالأمس كانت فرحتي غامرة بذلك المنجز.
وكلما فرحت برؤية مكتبة جديدة، أو مررت بمكتبة قديمة، أتذكر رحلتي كواحد من «قوارض الكتب» ونخاليها ووراقيها، وهي رحلة بعيدة وقديمة مع «خير جليس في الدنا»، كانت شاقة ومفرحة ومتعثرة، لكنها تبقى من الذكريات الغالية في الحياة، وتبقى مدغدغة للجوف دائماً كلما تذكرت كتاباً قديماً أو لمحت كتاباً في مكتبتك أو قرأت إهداء كتبه أحد عمالقة الشعر والأدب لك، تلك المكتبات التي تتنازعها المدن والبيوت وضجر النساء من فوضاك «المرتبة»؛ حيث يمكنك أن تشبر الكتاب، وتدرك في أي رف يستقر، وما جاره القريب أو جاره الجنب!
كانت رحلة جميلة بدأت بالركض وراء الصفحات المكتوبة المغبّرة المكرمشة، هاربة من دكان خبّاز أو رماها جائع بعد أن شبع، والتي تزاغيها الريح إلى أن تستقر جنب ظل جدار أو تلتصق بغصن شجرة أو تبقى تشاغبك لاهثاً وراءها لا تريد هي أن تتوقف، ولا تريد أنت أن تفوت متعة الاستحواذ ومسك الحروف الهائمة ولذة الاكتشاف الأولى.
الكتاب الطفولي الملون والعزيز في ذلك الوقت أمسكت به أول مرة في مستشفى «كند» الأوليّ القديم، حينها كانوا يوزعونه علينا لكي نتسلى ونلعب ونخربش بالألوان ونصمت قليلاً عن البكاء أو إزعاج النساء «المربيات» حديثات الولادة، وكان أيضاً جزءاً من هدايا «المُخَلِص» إن استمعنا للوعظ وكلمات الرب باندهاش.
بالقرب من ذاك المستشفى المبني بالجص والنورة، كانت «صنيّة أو كدّافة» سميت «صنّية كند» كانت تختلط فيها أشياء كثيرة، مجلات غير مكتملة، رسائل مهملة، صفحة من جريدة أتت بالبريد البحري، وقاست حتى وصلت، صور نساء مختلفات عن أمهاتنا وعماتنا على صفحات حروفها تتراقص من اليسار إلى اليمين، ولا نقدر أن نفك سرها.
وكانت بالقرب أيضاً مدرسة النهيانية القديمة، والتي كانت تنثر كتباً قديمة بين الحين والآخر، كتباً ملّها الطلاب الكبار، وكتباً تعرضت للتمزيق بسبب مشاجرات صبيانية، وكتباً كانت ضحية النجاح والانتقال إلى صف جديد، كنت تحتفي بها خاصة كتب التاريخ والجغرافيا.
وغير بعيد كان مبنى البريد المصنوع من «البريستي» كان يسرب للشغوفين أمثالي، غير الطوابع المختومة والقادمة من بلدان لا نعرفها، مجلات ممزقة، وصوراً مطموسة، ورسائل لم يعرفوا أصحابها، وكتيبات وملاحق وكتباً لم يعرفوا قيمة الحروف الساكنة بين دفتيها، ومجلات فنية لبنانية، مثل: «الموعد» و«الشبكة»، كانتا المحرضتين على متعة الإبحار والقراءة، وتلمس حياة الفن ونسائه اللاتي من ورق.
كانت من ضمن من أعانوني على تلك الرحلة الجميلة، أشياء كان يحضرها الأب معه من رفقاء السلاح من الإنجليز أو من معسكر قوات «تي. أو. إس» في الشارقة أو الجاهلي أو حين يذهب إلى الظنة والمرفأ.
المدرسة الداخلية وفرت لنا حصصاً للقراءة، وقصصاً أجنبية، وكتباً ملونة، وساعات مقتنصة من أوقات اللعب، في المقابل كان ثمة قصاص صغير يحب أن يقلد الكبار ويحكي، وأكتشف فجأة وهج تلك الحروف وما تحمل من بشارة، فأغامر باتجاه تلك الورقة الطائرة التي تزاغيها الريح في رحلة كانت منذ بدايتها جميلة.