كنت دوماً أتمنى أن أسلك في بعض المدن القديمة والتاريخية منها بالذات طرق القوافل، ذلك الطريق غير المعبد، والمتعرج بين جبال ووهاد وسهول وبرار، في الممشى والمسعى للحج أو لمواسم التجارة وطلب العلم أو ما كان يسمى طريق الحرير، وليست هناك من مدن، مثل مدن الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي السابق، تمثل تلك الأمنية لذلك المسافر الذي تستهويه متعة وعثاء السفر، ومتعة التوقف والتزود وسكن الخانات القديمة. هي سفرات من التاريخ البعيد ليتها تكون في وقتنا، لتكون منية النفس.
السفر للبلدان الإسلامية في منظومة الاتحاد السوفييتي السابق سفر لا يخلو من المتعة والدهشة، غير أنها المشقة، والإجراءات الكثيرة المعقدة، والحال الذي عانت منه ومن النظام الشمولي، فبالرغم من أنها جمهوريات منتجة وغنية ودعمت الاقتصاد السوفييتي إلا أنها كانت مهملة، ومهمشة في خطط التطوير والنهضة الشاملة، وحاولت هذه الجمهوريات عمل الثورة المضادة ضد النظام المركزي فجوبهت بالرفض والقمع والتدخل العسكري، والعمل على خلخلة التركيبة السكانية، ودمج القوميات في قومية سوفييتية واحدة، لكن كان دائماً تحت رماد النار وميض جمر، وقد تشعلها القشة اليابسة. شعوب هذه الجمهوريات تنحدر من قبائل متعددة، وثقافات مختلفة، لكن يجمعها الكثير من الروابط التاريخية، وتكاد أحياناً أن تتشابك الوشائج، وأحياناً تنقطع هذه العلاقات وتنذر بالحروب، وقد لعب الاتحاد السوفييتي تلك السياسة البريطانية الاستعمارية «فَرِّق تَسُد»، فبعض المدن كانت تاريخياً تابعة للطاجيك، وهي اليوم للأوزبك، لكن هذه الأمور، وتعميم القطيعة، وتلغيم الحدود بالمشكلات والتهريب والتخوين، لم يمنع هذه الشعوب البسيطة ذات الطبيعة البدائية الجميلة من التعايش بسلم ومحبة وحسن جوار، وهم أقرب إلى أخلاق أهل القرى والفلاحين منهم إلى مادية المدن، واستغلالية فرصها، فهم يرحبون بالضيف ويكرمونه ويدخلونه بيوتهم ويقضون حوائجه بتلقائية الإنسان النبيل، هؤلاء هم أنفسهم الذين كان يطلق عليهم «الرفاق المؤمنون».
اليوم أصبح السفر لهذه البلدان أبسط، والتي تحمل في آخر اسمها «ستان» وتعني الأرض، وهي خمس جمهوريات، وأقل تعقيداً مما مضى، ففي السابق عليك أن تقدم طلباً، ولابد وأن يشفع بدعوة من مؤسسة، وحزمة من الأوراق والثبوتات، تصادق عليها الدولة المركزية برتابة الموظف الحكومي، والدولارات القليلة التي يجب أن تحملها، وتصرف بعضها إجبارياً عند قدومك للمطار، والباقي تصرفه في البنك الشعبي الحكومي بسعر بخس، وعليك أن تسجل أي فندق ستسكن وأغلبها فنادق تعيسة، وتابعة للدولة، ولا تحمل أي نجمة، صحيح أنها رخيصة جداً، لكنها أشبه بثكنات الجنود، وستبقى متابعاً كأجنبي، وجوازك في جيبك، وكاميرتك الفوتوغرافية محل أنظار الجميع، فتهمة الجاسوسية ملصقة بالأجنبي، وتهمة التخابر مع جهات أجنبية معدة للمواطن، وحكمها من حكم الخيانة العظمى، لذا لا تثق بمترجم، ولا بسائق، ولا بالمرشدة السياحية، ولا بأحد تلتقيهم مصادفة من الإخوان العرب، ويقول لك إنه طالب طب أو هندسة، وكلهم فاشلون لا يملكون إلا ذاك «السويتر» الجلدي الأسود، ولا تركن للفتيات الجميلات المشاركات في أي مؤتمر باعتبارهن من المناضلات الأمميات في جبهات التحرر العالمي، كما يقدمن أنفسهن، فالجميع مجند، إما خدمة للمبادئ أو خدمة للروبل.. وغداً نكمل