* تلتقي مع صديق صدوق دون موعد، غير ما تمنحه لك الحياة من مفاجآت المواعيد، في مدينة هي موطن عشقكما، وفرحة قلبكما، مدينة تضج بالقلق الإنساني، ومحاولة مقاومة الحياة بالحيلة، تلتقيان بعد سنوات عجاف من الجائحة، ومن حوادث مفصلية في حياتكما، فيكون ليل القاهرة سكراناً بضحكاتكما، وتذكار ما فاتكما، حينها تشعر بشيء من الرضا البارد، مثل «نسمة هوى».
* ترى دمعة خارّة من عيني زوجة، وهي تتذكر ما صنع ذاك الرجل من ضجيج جميل في حياتها ورأسها، وما أسدى من خير وطيب لأهله ووطنه، والكل يتفق عليه، ومن أجله يحتفون ولا يختلفون، فتسمع صهيل روحها، وهي تعتذر؛ ليتها قدرت أن تحبه أكثر، وليته عاش أكثر، وليت خطوتها نحو الرحيل كانت قبله، حينها شعرت كيف يمكن للحب أن ينطق، وكم هو دائماً حاضر مثل «نسمة هوى»!
* من تفاصيل الليل القاهري أن تصنع تلك العلاقات الإنسانية البسيطة وربما الطارئة، بالتواطؤ بين فرحتك كسارد للحكايات، وفقر احتياجه كسائس لمرآب السيارات، فيكون اللقاء الأول بالجدال بشأن موقف سيارتك بين كم سيأخذ، وكم ستعطيه، ثم يتحول في اليوم التالي للترحيب بك من بعيد، وسؤالك عنه من قريب، ثم في اليوم الثالث يبدأ بعتاب منه، لأنك تأخرت ساعات عن موعدك، ويحدثك عن وخز القلق الذي انتابه، وتفرحه أنت بسؤالك له عن أسرته، ثم يتحول في اليوم الرابع إلى كثير من الامتنان من طرفه، وإلى التقرب من طرفك قليلاً وقليلاً من نفسه وبيته الفقير، وفي اليوم الخامس يسمعك كل قصصه الدرامية في الحياة، والتي لا تُعقل في كثير منها، وتستمع له فيما يُعقل من القليل منها، وفي اليوم السادس تصبحان أصدقاء طارئين على أرصفة المدينة، يتذكرك في شيء، وتتذكره في أشيائه الإنسانية التي مثل «نسمة هوى».
* تصلك رسالة بأن رساماً يسكن مدينة من مدن الرماد، مرة يجد خبز يومه، ومرة يئن من جفاف ألوانه، وكثيراً ما كان يقتسم ثمن الخبز، وسائل الحبر، لأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، فالرسام إن لم يجد أقلاماً وألواناً تصبّ الحياة فوق قراطيسه وأقمشة رسمه، يشعر بالخواء وجفاف الروح، وبجوع وعطش ينهشان النفس. حزنت لأن الحرب والحصار والابتلاء بأيديولوجيا التدين المسيس، والجهل بقيمة الأوطان وشرفها، تجعل الفنانين محطمين، ويمكن أن يتخلوا عن الريشة والسلام إلى البندقية وصوت الرصاص في لحظات اليأس، فنفتقدهم مرتين: مرة حين خرجوا من صفوفنا، ومن حب الخير الذي ينتمون له، وتحولهم لأعداء، ومرة لأن الآخر والحرب قدرا أن يكسبا صديقاً جديداً، فتداركت حال الرسام، وذهبت أجوس في زوايا المدينة لأشتري له حقيبة وزوادة من الألوان والقرطاس والأقلام، وتهريبها له، ولو وصل نصفها. غمرتني سعادة لأننا قدرنا أن ندفن بندقية في مدينة الحرب والرماد، حينها شعرت بالندى على وجهي، وبرائحة الورد في أنفي، وبشيء جميل مثل «نسمة هوى».