سيّان بين رجلٍ قرر أن يخرجَ من رماد ماضيه كي يُنقذ العالم، وبين رجالٍ هبطت على رؤوسهم الحيرة فظنوها قبعة الخلاص من الندم، ولم يلتفتوا لمعنى الصراع بين الخير والشر، ولم يعد يعنيهم أن تقفز فتاةٌ عاشقة من على الجسر، وأن تدوس الخيول على باقة الورد في يدها المحنّاة. أتمعّن في هذا المشهد كونه لم يعد موضوعاً يصلح للقصيدة المعاصرة، ولم يعد الموت كافياً كي يسأل الفلاسفة من جديد: ما هو الموت؟ إنها كما يبدو لحظة (اللاحقيقة)، اللحظة التي نُدركُ فيها أن كل الأشياء وكل الكلمات، مجرد وقود محروق في آلة الزمن! فأنت تتقدم إلى الأمام إذا آمنت بما يروّج له سماسرة المعنى. وأنت تتأخر، وتُشلُّ أجنحتك، إذا صدّقت كتب الماضي ولم تُمعن العقل في شروحها وشروخها.
سيّان أيضاً بين امرأةٍ شعرها في الريح رسالةُ المطلق، وصمتها في ساعة اللقاء كتمان الصهيل الحر. أنا لا أقارن هنا بين صوتين أو صورتين، ولا يذوبُ بين أصابعي ذهب الكلام العذب ولا فضّة الأمثال. ذلك لأن المرأة في ألبوم الوجود شمسُ خفّتهِ وتعافيه. وهي في كتاب الوجود، فطامُ الأسرار كلها، وسبب كل معنى، وآية لضوء آتٍ من بعيد.
لن يكتب الرجالُ عن الحب بوصفه سيرة خاسرة. ولن تكتب النساء عن الجرح باعتباره أغنية خرساء. لكن طفلاً صادف أن مر بينهم، لن يلتفت إلا للوردة وربما يصرخ: هذه أمي. وربما يكتب الفيلسوف بعد ذلك عن الحرية وهو يقصد المرأة التي ترفس الرجل الجبان رفسها لحجرٍ يسد النبع، أو رفس باب كلما أغلقته يد السكون، عادت وفتحت مصراعيه يد العاصفة الماكرة. نعم، إنهما، الرجل والمرأة، يتجاذبان في لعبة شد الحبل، لا ليفوز أحدهما وينتصر، وإنما ليبقيا هكذا متعادلين إلى الأبد.
كان الوهمُ حقيقياً في نصف الكأس الفارغة، وكانت الحقيقةُ وهماً عندما تجرّعت الكأس كلها ولم ينطفئ عطشي بعدُ. أنا لا أبحثُ عن كمالي في نقص الآخرين، والمرأةُ التي وصفتُ عبورها على جسر الورد، هي مجرد نجمة سقطت في فمي وأنا للتو أنطقُ بكلمة الحب، وبالكاد بدأتُ أغني للعابرين في المتاهة العظيمة للعشق. قلتُ أجرّب عذوبة ومرارة هذه الكلمة تحت لساني، فلا داعي للقلم لأنه في النهاية مجرد عصا، ولا داعي للورقة لأنها بيت ما نمحوه أيضاً، وليس فقط ما نكتبه.