حين بدأ الليل يعزف أوتار السكون، وأنا في نعمة العزلة والهدوء همست لنفسي: أود أن أهجر الشعر وأكون فيلسوفة. قالت لماذا؟ قلت: لأبحر في عمق الوجود، وأكتشف سر الغباء، وسر الفناء، وسر الخلود! قالت: لك هذا، لكنك لن تبلغي ما تريدين إلا إذا تجاوزت أوهام الخرافات وسلاسل القيود. قلت إذاً ماذا عليّ أن أكون؟ قالت: كوني كنجمة في رحاب الكون، تشعُّ كلما أظلم!
نهضت وتذكرت أن هذه الصفة كلما وردت في كتاب أو مجرى حديث شفهي، تساءلت بيني وبين نفسي عن معناها ومرجعها الأصلي ليقين علمي أنها ليست عربية المصدر. لذا رجعت إلى الجذر اللغوي لهذه الكلمة في المعجم العربي. وبعد أن شرح المعاني المتعددة للجذر «فلس» أكد بأن الكلمة يونانية الأصل، مركبة من معنيين، هما «فيلو» وتعني المحبة، و«سوفيا» وتعني الحكمة. أي أن معناها، (محبة الحكمة) التي تلفظ في اللغة الإنجليزية: philosophy.
وذكر المعجم العربي أن «الحكمة تعني التأنق في المسائل العلمية والتفنن فيها»، ولأني اعتقدت دائماً أن التأنق مفهوم يرتبط بارتداء الملابس، فقد أدهشني أن يرتبط التأنق بالمسائل العلمية، ولذا رجعت إلى المعجم الإنجليزي الذي عرَّف الفلسفة بأنها البحث عن الحقيقة بطريقة التفكير المنطقي والتأمل العميق، وليس الملاحظة العابرة. وأنها العلم الذي ينتظم علوم المنطق والأخلاق والجمال وما وراء الطبيعة ونظرية المعرفة. أما الفيلسوف فهو: شخص ذو نظرة فلسفية تمكنه من مواجهة الشدائد برباطة جأش!
وقد أعجبت بهذا الوصف وتمنيت لو أصير فيلسوفة، لكني تنازلت عن أمنيتي سريعاً بعد أن قرأت قول المفكر الصيني «لين يوتانج» في تعريفه المرح للفيلسوف إذ يقول: «قد يكون الفيلسوف في حياتنا العصرية أكثر الناس تعرضاً للمديح وعدم الاهتمام في الوقت نفسه!»، ثم يستدرك متهكماً ونافياً: «إن كان ثمة في هذا العالم شخص على هذا النحو، لأن لقب الفيلسوف أصبح يطلق على بعض الناس كتقدير اجتماعي فقط»! ثم يضيف ساخراً: إن كل إنسان غامض ومستغلق على الفهم يسمى فيلسوفاً. وكل امرئ لا يبدي اهتماماً بوقائع الحاضر يدعى فيلسوفاً. وكل من يرفض ما يراه بنظرة إلى الواقع على حقيقته، يعتبر فيلسوفاً. فالفيلسوف هو الإنسان الذي يرفض الانصياع للأقاويل العامة. وهو الذي ينظر إلى الحياة بعين الفنان لكي يمكننا رؤية معناها. وبهذا المعنى فالفيلسوف هو النقيض المباشر للشخص الواقعي الكامل، هكذا سندرك المعنى الأعمق للفلسفة والفيلسوف. ولذا أدركت أن عليَّ أن لا أتمنى هذه الأمنية، بل أبقى شاعرة لأكون كما همست لي به نفسي!