لن أداوي الجرحَ إذا كان منها، بل سأتلوهُ على ملأٍ وسأنثر خرز المكرِ بين عشّاقهم. يلذُّ لمهجتي أن ترى اضطراب اثنين في عنفوان اندفاعهما، لكنهما يتجمدان حين تلتقي العين بالعين. وحين يقتربان أكثر، يسودُ صمتٌ في لغة الكون ويغسلهما من إثم الكلام. ويلذُّ لبصيرتي أن ترى يدها تمسكُ بيدهِ المتخشّبة، ثم يجريان معاً يسابقان النهر والموتُ تحت قدميهما أثرُ ذكرى لا تجيء، والريحُ في انفتاح ذراعيهما لحن تنهيدةٍ حرة، وطلوع صوتٍ من كتمان صوت.
لن أغرز سيف النصر في أرض أعدائي، بل في الكتاب الذي ضلل صورتي في أرواحهم. أنا ابن ثمانين أغنية، ومن وقع أقدامي تدربت طبول الحرب، ومن شهوتي للبعيد استيقظت أحلام المسافات، وشيئاً فشيئاً صارت تتراخى في اكتشافاتي أسرار المعجزات. هبّي: قلتُ للريح كي أسرّحَ شعر حبيبتي. عُد لاندحارك: قلتُ للخوف، وربطتُ شياطينه نواطير على غرف الماضي، وحرّاساً في محطّات القطارات التي ستأتي غداً، وهيهات تأتي. قد يموت الزمنُ يوماً، وقد تلدغُ العقرب نفسها بذيلها، لكني ألدغُ بالقلمِ جرحاً فأشفيه، وقد أعالجُ وجداً تخثّر حنينه في القلب، بأن أبــثّ الأمل في انطلاق أغانيه.
الذكرياتُ بعد ستين عاماً تصيرُ ثقباً أسودَ لوجود أصحابها. لكنها بالنسبة لي، حوضُ سباحةٍ في الشوك، مصيدةٌ أحتاجُ إلى ألف مقصّ لأقطع خيوطها الحريرية وهمساتها المرّة الناعمة. وأحتاجُ إلى جيشٍ من مدرسي الرياضيات لأفهم نظرية (الفقر) وكيف لا أزال منتمياً إليه. من أوهمنا بأن الأقلام سواسية في السباق؟ من أقنعنا بأن الخير والشر برعمان مزروعان في النفس، وأن حصادهما صنيعتنا نحنُ وحدنا، لا من صُنع الآخرين؟
مؤيدون للكلمة البيضاء منَحوني لقب: الممحاة. وغاضبون بألسنةٍ مقطوعةٍ هشّموا زجاج بيتي بحصى الكلمات التي لم يقلها أحد. مرةً، صرخت امرأةٌ غجريةٌ: لا ترجموه بالمعاني الفاسدة، إنه العضو الجديد في متاهة الصواب والخطأ، ولا بأس لو ارتطم رأسه بالمرايا وهشّمها، ولا بأس لو سال دمه نقطة نقطة ليغذي حمرة الورد.
لقد رأيتهم بعيني وهي مغمضة ومعصوبة بأيادٍ ألف. الذين يقرؤون كتاب الحرية فيصبحون سجناء فيه. والذين ينظرون إلى السماء فيرونها بعيدةً، وما هي إلا مسافة خيالٍ حر. ولو أنطق يوماً لأشير إلى أعدائي، لقلت إن الذي يحصر الكلمة، يصير في النهاية أسير تقلباتها في المعنى، ولا سبيل إلى معرفة الحقيقـة إلا بالجمع بين تناقضاتها كافة.