ليس هناك من قيمة عالية حظي بها شيء في تاريخ البشرية مثل قيمة «القلم» لما له من مكانة عالية وغالية في نفوس البشر، فهو يحفظ العلوم والمعارف الإنسانية، وهو الذي خدم تطور العقل البشري بما خط وحفظ، ودوّن وسند، بالقلم كانت تكمن نجاة شخص أو سوقه للمقصلة، عروش تهاوت بجرة قلم، وحروب قامت بجرة قلم، معاهدات سلام كان ختامها سحبة قلم، القلم كان مرسال الحب، وكلمات الأغاني الخالدة، وموسيقاها الباقية، نظريات وفلسفات ولوحات وروايات وملاحم كان تخطيطها الأول بواسطة ذلك القلم، لهذا الشيء الجليل سيرة طويلة، وتجارب كبيرة، بدأ كقطعة خشب، وريشة نعام، وقطعة فحم، وإبرة رصاص، وفضة ثم ذهب وألماس، حاول إنسان العصر الحديث أن يخرجه من حالة السيولة إلى الجفاف إلى التصنيع الجديد، ثم تخلى عنه في عصر الرقمنة والحواسيب، حتى القلم الإلكتروني لم يصمد كثيراً في عصر متسارع نحو الابتكار والدهشة.
وحقيقة انبثاق هذه الفكرة، كانت حينما شاهدت الملك تشارلز الثالث في أيام الحداد والتنصيب العصيبة، وهو ينفر من قلم كان موضوعاً على طاولته في أيرلندا الشمالية، وأثناء توقيعه كتاباً للزوار أمام الكاميرات في قلعة «هيلزبورو» بالقرب من بلفاست، حيث بدا الملك الجديد منزعجاً عندما تسرب حبر القلم على يده، حيث قال لزوجته كاميلا، ومساعديه:
«يا إلهي.. أنا أكره هذا القلم.. لا يمكنني تحمل هذا الشيء في كل مرة»، !«I can›t bear this bloody thing»
بعدها أخرج الملك الجديد من جيب سترته قلماً يبدو محبباً لقلبه، والذي سرعان ما انتشر خبره أنه كان هدية من ولديه «هاري وويليام»، وهو الذي وقّع به على توليه العرش، انزعاج الملك وتوتره جعله يرتكب خطأ آخر وهو كتابة تاريخ اليوم 12 بدلاً من 13 سبتمبر.
علاقتي بالقلم، وعلاقة مجايلي بهذا الشيء السحري بدأت من الصفوف الأولى، لكنه كان قلم رصاص ومبراة وممحاة، لكن القلم الحقيقي لم يظهر واضحاً إلا مع امتحانات شهادة الابتدائية العامة والإعدادية العامة، فعرفنا حينها قلم «البك» وقلم الحبر «بو بامب»، وقلم الحبر «باركر 21»، وكان وضعه في الجيب العلوي للكندورة الكويتية «أم ياقة» أو القطرية «أم أذنين»، واللتين كانتا سائدتين حينها، رمز الثقافة والعلم، وكان عندنا «الكراني» الذي تجد في جيبه أقلاماً مرصوصة، وهو رمز التباهي بالعلم وبمعرفة الكتابة، أما قلم المعلم وفيما بعد قلم الرقيب، فكان قلماً أحمر، وحين تولي رئاسة التحرير كان القلم الأخضر، وحينما كبرنا تفاخروا بامتلاك أنواع شتى من الأقلام الجميلة والغالية والتاريخية وذات الأرقام المحدودة الصنع، لكن لم يكن هناك من قلم، مثل ذلك القلم الذي يكتب بقلب ساخن، وحبر بارد، ولم نكن نتوقع أن يأتي علينا زمن ننبذ فيه الأقلام، وتجف فيه الصحف، ونتجه إلى الطباعة التقليدية من خلال الآلات الكاتبة، ومن ثم «الكيبورد»، ونودع القلم في مخبئه غير سائلين وناسين ومتناسين، حتى أصبحت أصابعنا التي تعرف أنواع الخط العربي بمسمياته المختلفة من الكوفي القديم إلى الرقعة والثُلث والنسخ والديواني وغيرها، مرتجفة، وذهبت تلك المهارة الجميلة التي فيها، والتي تضاءلت مع عدم الاستخدام والإهمال، وجنوحنا نحو الكتابة الرقمية الخالية من أي روح أو إحساس إنساني.. اليوم يمكنني أن أقول سيأتي زمن يتكهن فيه ذلك الشيء الذي كان عالي المكان، وغالي الأثمان!