تخضع القصيدة في نسقها النهائي لطبيعة اللغة. إذ إن الكلمة كدالة، ومعناها كمدلول، يتوافقان في سياق النص بالاعتماد على الكلمات والمدلولات الأخرى. ولكن المعنى في القصيدة يختلف عنه في الخطاب المنطقي المراد به إيصال حقيقة ما أو مضمون ما. كون هذا الخطاب يُبنى في الأساس من مرجعية الكلمات وفق معناها في القاموس. بينما في النص الشعري، يتلاعب المبدع بهذه المدلولات ويغيّر من مواقعها في النسق وبالتالي يمنحها روحاً جديدة. ولذا فإن الحساسية الشعرية هي في الحقيقة ملكة يمتاز بها الشاعر الذي يملك فهماً عميقاً باللغة وإيحاءاتها النفسية. أو بمعنى آخر، يستطيع الشاعر أن يقول المعنى المختلف والجديد بالكلمات القديمة نفسها.
كلمة «الباب» مثلاً، قد تعني عند المحافظين والمتمسكين بالمنطق العادي، ذلك الغرض الذي يتم الدخول والخروج منه. بينما الباب في ذهنية وخيال الشاعر هو الانطلاق والتحرر، وهو نقيض (النافذة) في الشكل والمعنى حتى وإن لم يقل الشاعر ذلك. وكذلك بقية الكلمات التي توحي بنقيضها حتى وإن لم يتم ذكره. فالشمال ضمنياً هو اللاجنوب. وهذا سياق تنبّهت له مدارس النقد الحديث ومن بينها (التفكيكية) التي ترى أن تعريف الكلمات لا يكون محايداً دائماً، لأنه يعتمد، عند التعريف بها، على كلمات أخرى يتم اشتقاقها بشكل لا نهائي.
ماذا يعني ذلك؟ ماذا يعني أن الكلمة في سياقها العادي، تختلف عن معناها في سياقها الشعري؟ للإجابة على هكذا أسئلة علينا الاحتكام إلى النص، إلى تفكيكه كلمة كلمة بغية البحث عن المعنى غير الظاهر في النسق العام. أي أن وظيفة النقد أن يفتّش عن المعنى الموحى به، وأن يكتشف الكلمات والسياقات (غير المكتوبة) في القصيدة لكي يرصد الإشارات والدلالات التي تُضاف ضمنياً بسبب طبيعة اللغة. ولكي نقترب أكثر من هذه الفكرة فإن جملة مثل (يعود الرجلُ إلى البيت كل مساء ولا يجد أحداً بانتظاره)، تحيل في مضمونها إلى شبكة واسعة من الدلالات والإشارات غير المكتوبة، ولكن طبيعة اللغة توحي بها. ولنا أن نتخيل أن الرجل يعود مرهقاً ويكون وحيداً وهو يعمل منذ الصباح وأنه يشتاق لامرأة.. وهكذا في اشتقاق لا نهائي للمعاني.
وحده الشعر الذي يمتلك القدرة على توليد مثل هذه الطاقة اللانهائية من الدلالات لتجديد اللغة. ووحده الشاعر من يستطيع أن يحمل النجمة ويقذفها في بحر الظلام!