خلال أسفاري الكثيرة كنت أستطيب القهوة والشاي، وأستطعم لذائذ ما تأكل الشعوب، وهذا شأن كثير من الناس الذين يتمتعون بالسفر من خلال تجريب أكلات الشعوب، وفن مطابخهم، وطقوس شربهم للمشروبات من قهوة وشاي، وما يمكن أن يفاجأ به الضيف من لذيذ الطعام أو غريبه، ولا أبريء نفسي من هذه التهمة والتخمة اللذيذة، غير أن لي شيئاً أهم، وهو تجربة القهوة والشاي وطقوس تقديمهما عند الشعوب، فهذه ثقافة لحالها، فالقهوة الإيطالية تناديك من بعيد، وتقول لك: «بونجورنو سونيور»، لا كما القهوة النرويجية أو الفلندية التي تشبه الحلول أو الخلول أو مريس الهندال، ولا تقل عنها القهوة الأميركية التي تشعرك أنها ماء وقهوة خلطا مع بعض بيد غير ماهرة، وأنها شغل ماكينة، بينما القهوة الفرنسية تتنوع وتتدلع، مرة بحبة بندق «نوازيت»، ومرة «لاتيه»، ومرة «كافيه أو شيكولا»، لكن ميزة تقديمها، وطقس ما يقدم معها من كأسات وفناجين تميز كل مقهى في كل مدينة، فالأتراك من المعيب أن تقدم القهوة عندهم من دون كأس ماء، وفي العادة يشربونه قبل القهوة، وإن كانت القهوة التركية «توركيش كوفي» مشهورة في الخارج أكثر من تركيا، والتي تسمى عندهم «قهفا» فقط، عدا اليونان وقبرص حيث تعد القهوة التركية مسبة لهما، ومنقصة في حقهما، نظراً للعداء التاريخي بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك، لكن أطيب قهوة في تركيا هي القهوة السلطانية أو العثمانية المعمولة في الرمل الساخن، والتي تكاد تكون أقرب للقهوة السعودية، ولكن لا تماثلها بالتأكيد، فالقهوة الصفراء وأحياناً يقال لها البيضاء أو الشقراء السعودية من أطيب القهوة التي يمكن أن تتناولها مع حبات تمر سعودي مثل الصقعي أو السكري أو نبوت السيف، غير أن مثل اللبنانيين لن تجد ضحكاً على الذقون حينما قالوا لي مرة: جرب قهوتنا البيضاء، فتملكني العجب، كيف قهوة وبيضاء، فإذا هي ماء زهر في فنجان صغير، كان بإمكان اللبناني أن يعد لي حينها فوائدها السبع، وأصدّقه، ويذكر محاسنها الثلاث التي تجلب الحظ والفأل، وأنها تقي من الحسد، وتحد من خمسة أمراض، ويمكن أن يضيف أنها مفيدة للرجال في سن تقاعدهم، غير أن عند اللبنانيين كشأنهم في أطايب الأكل والشراب، عندهم القهوة السادة التي تقدم في المآتم عادة، والقهوة البعلبكية التي تشبه القهوة السورية والأردنية البدوية الكحلاء، وعندهم «الوسط وعلى الريحة، وبِوش، ومغلية»، كذلك الأمر عند المصريين والسوريين، وهي من عادات القهوة عند الأتراك انتقلت إليهم إبان العصر العثماني، غير أن في اعتقادي أن الأتراك أخذوها من العرب، فالقهوة العربية مرتبطة تاريخياً بالعرب منذ الأزل، وتعد من قِرى الضيف، ويمكن أن تحل قضايا القتل والنهب بينهم، وتسمى خمرة العرب، ويسمون الخمرة القهوة، وقهوة «المخا» اليمنية مشهورة، والتي أصبحت اليوم «موكا كافيه»، كذلك القهوة في اليمن لها طقوس تحضير مختلفة، منها ما هي مع الزنجبيل أو مع بعض الزهور، لكن أطيبها القهوة «القشر»، وقريباً من اليمن هناك إثيوبيا وكينيا، حيث الطقوس البدائية التاريخية في تحضير القهوة، وتقديمها وما يصاحبها من سحر المجلس ومن فيه، وما يقال فيه.. وغداً نكمل