«هنا.. إذاعة «BBC» من لندن..» ستغيب تلك النبرة بالصوت العربي الجهوري لأولئك المتمرسين منذ زمن طويل، وستغيب معها سماع دقات ساعة «بيغ بن» المعتادة لنشرة الأخبار التي كان يرقبها ويترقبها المواطن العربي من الخليج إلى المحيط إبان الصراعات والحروب والاستعمار والثورات والانقلابات المختلفة، بعد 84 عاماً من حضور تلك الإذاعة المحترمة والمهنية، والتي كانت أمتع حتى من التلفزيون نفسه، ولها تقديرها ومصداقيتها حتى أن الخبر إذا لم يبث من خلالها لا يعد خبراً صادقاً، وجملة «سمعته في نشرة إذاعة لندن» كان جواز مرور لمصداقية عالية عند الناس.
اليوم نظراً للظروف الاقتصادية المتأزمة، ورغبة في تقليص النفقات سيتم التخلي عن الإذاعة العربية والإذاعة الفارسية، وهناك أقاويل تتردد أن إحدى الدول تفاوض على شرائها وإعادة إحيائها من جديد، لكن هل يمكن أن تشترى المهنية والمصداقية؟ الأمر الآخر الذي لا أراه مقنعاً أن التخلي عن هاتين الإذاعتين وخاصة العربية لسبب يخص ترشيد الإنفاق والأزمة الاقتصادية التي تمر بها بريطانيا، لكن خلال العقود الثمانية ويزيد، مر على بريطانيا أكثر من هذه الأزمة، وحرب عالمية، وفرط التاج البريطاني من على مستعمراته التي لا تغيب عنها الشمس، ولم يقدموا على خطوة مثل هذه، ربما المتغيرات في الإعلام التقليدي هي السبب، الظروف السياسية وتقلباتها ربما هي السبب، انتفاء هدف التوجيه واستهداف المتلقين هو السبب، وسائل الإعلام الجديدة والرقمية هي السبب، انحسار الجمهور المتلقي والمتابع هو السبب، ليكن ما يكون، المهم تم تكهين تلك الإذاعة الجميلة والممتعة والمتنوعة والشيقة والحافلة بالمعلومة، والتي بنت مدرسة إذاعية في الإعلام العالمي، وتقاطر عليها كبار الكتّاب والإعلاميين والشعراء والفنانين العرب، كانت إذاعة لم تعرف الكذب، واحترفت الصدق، وهذا عيبها الوحيد إن عُدّ ذلك عيباً!
سندفن مع غياب تلك الإذاعة الجليلة، الكثير من ذكرياتنا، ذكريات طفولة وصبا وشباب وكهولة، سنودع أصواتا وأسماء نعرفها بذلك الهسيس والدفء في القول، ولا نتذكر وجوههم مطلقاً، كانت علاقة الصوت، والصور المتخيلة أقوى من أي صورة ظاهرة وواضحة، لا أدري لِمَ حين ظهرت «الفاشينيستات» على شاشات الهواتف النقالة شعرت أنهن سبب في مقتل إذاعة قديمة وعجوز، ومسلية بأخبارها وحكاياتها؟ وحين تخلى الإنجليزي عن صفة «الجنتلمان»، وارتدى «الجينز» الأزرق بدلاً من تلك البدلة الصوفية المخططة، والتي عادة ما يحيكها عند خياط مخلص لمهنته، ويهرم في حانوته القديم لوحده، لا أدري لِمَ شعرت حين دفنت تلك الملكة جدة العالم الطيبة، أن هناك أشياء مخلصة لوقتها ومكانها ستغادر الوقت الجديد ومكانها؟ لكنني لم أتوقع أن ينطفيء ذلك الصوت الجهوري:» هنا.. إذاعة الـ «BBC» من لندن»!