أعرف شاعراً كان يحبو على ورق الجرائد حتى اسودّت ركبتاهُ، وحين كبرَ صار فمه رهين الكلمات والجُمل الجاهزة. وأعرف فناناً كان يرسم السلالم الطويلة على الأسوار العالية ولكن لم يصدّقه الحمقى، بل خلعوا القيود من أيديهم وأرجلهم ورجموهُ بها مفضلين الانطواء في فكرة الستر! ومن حسن حظي أن امرأةً اسمها «الذكرى»، كانت تزور دفاتري وترقص في أوراقها على شكل نصٍ، على شكل كلمات تتمرد ضد المعنى الجاهز بأن تخرج من أسرِه بحثاً عن اختلافها. وهي المرأة نفسها التي إذا مدّ الظلامُ لحافه على جسد العالم، استيقظت على شكل شمعة، على شكل قمر، على شكل طفل يرفس مهده رفساً ويبشّر بمذهب الأمل الجديد.
من يكتب القصيدة إذن؟ من يزلزل النار الميتة ويبث في رمادها شهوة الولادة وفتنة اليقظة؟ هل يحقُّ لرجلٍ نصفه قلمٌ ونصفه الثاني عدم، أن يبشّر بانتهاء المكيدة ويرينا كيف تُشلُّ عقارب الساعة المشؤومة، وكيف تفطسُ غيمة الشكّ، وأين يهطلُ سُمّها إذا تمرد ضدها عمّال المطابع وسعاةُ البريد؟
أنا حجرٌ رمتهُ يدٌ مرتبكة في سكون الماء، قال طفلٌ يغرق. أنا عالمُ آثار يبحثُ عن مكان جرح الأرض، قال راعٍ لأغنامه السائبة. وبين ليلة وضحاها رأى الناسُ جيشاً من الشعراء والفنانين يخلعون ساعاتهم المقلّدة ويرمونها في فتحة البركان. وكأن الوقت مجرد خاتم زواجٍ وهمي بين الأنا وتاريخها العبثي. وكأن الحياة مشيٌ كلها على شفرة سكيّن لمن يخاف من الخطأ. ونومٌ في حضن فقاعةٍ لمن لا يكترث لو سرقت الريحُ نعليه، أو حتى جرّدوه من لسانه وأذنيه وعينيه.
هل أفضح الشاعر أكثر؟ هل أسميّه الرجل الطويل الذي يحكّ ركبته في ظهور الجبال ثم يفتح فمه ويبتلع النجوم الآفلة؟ هل الحرائق اللذيذة هذه كلها نفخُهُ؟ وهل صحيح أنه يجعل الشمس زرقاء فوق النهر وحمراء إذا عطست طبول الحرب وفاح زكامها؟
لي متعتان فقط، هما الحياةُ والموت. وللشاعر ثلاث نوايا هي: الحب، العدمُ، الزلزال. وقفتُ يوماً على شعرةٍ ممدودةٍ بين ركضِ حبيبتي وبين محكمة الشروط. وللأسف، لم ترتقِ أصابع يدي إلى شكل مقص، إلى شكل رفضٍ على الأقل. وكأن الحب محكوم عليه بأن يظل مربوطاً في الإسطبل الذي اسمه «رضا الآخرين». وكأن الشاعر، هو الأوحد الذي حُكم عليه بأن يفتح كل يوم رسائل الزمن الفارغ هذا، وأن يظل يفسّر بياضها للأبد.