يجلس أمامك طفلك. وتتحدث معه وتسأله عن أمر ما، ولكنه يكون في غيبوبة الأغنيات الصاخبة التي تطق بها أذنيه سماعات أشبه بأبواق سيارات في مدينة مليونية صاخبة، تحاول أن تستعيد ابنك إليك، وتأخذ بيديه نحوك، ولكن التكنولوجيا، والغفلة، والإبهار التقني أقوى وأنكأ. وأدهى ذكاء في سلب الإنسان فطرته، وعفويته، وآدميته، مما يجعل الفجوة واسعة، شاسعة بين الأبناء والآباء، وبين الأصدقاء والأصدقاء، كل ذلك يحدث وكل ذلك يتفشى، وكل ذلك ينمي روح العزلة، ومع مرور الوقت.
سيعاني الملايين من الأطفال من فقدان السمع، وسوف يواجه الأطباء معضلة الكثرة العددية من فاقدي السمع، أمراض جسدية، ونفسية تحررها آلات السمع السحرية، والعالم يبهر بما تسديه القريحة الشيطانية لإنسان العصر الحديث والذي لم يذر ولم يبق، وقد تمادى في نبش قبور الحضارة، وبالغ في حفر الذات البشرية، وانتهى به الأمر أنه لا يضع حداً ليده الطولى، ولا يلتفت لما تحدثه العقلية الجبارة من خوف وفزع للنفس البشرية والتي باتت تواجه أزمة حضارية مبعثها الإنسان نفسه الذي نظر إلى السماء المرصعة بالنجوم، فقال لماذا لا أكون نجماً، فسعى، وحرث الماء كي يصل، ولكنه للأسف غاص في العميق، وانتهى به الأمر أنه لم يعثر على نفسه، ولم ير سوى ذات مشوهة، ووجه غائر، وعينين مغبشتين، وروح فارغة من المعنى، ليس هذا الكلام إدانة للحضارة بقدر ما هو خوف عليها وعلى منجزاتها المذهلة، وليس هذا الكلام انتقاداً للعقل، وإنما هو ارتجافة من القلب، ورسالة واضحة بأن العقل إن فقد صوابه يصبح بلا عقل، وما يحدث في تاريخنا المعاصر، هو ذهاب للعقل في رحلة تفقدية في غابة العبثية وهناك يضيع هذا العقل، ومعه تضيع حسابات الإنسانية، ولا يبقى غير الطب الذي يتكبد معاناة علاج المرضى النفسيين، وغيرهم من مرضى الجسد.
اليوم يقف العالم على مرمى حجر من كارثة أمراض خطيرة يتحمل جزءاً منها العلم، والجزء الآخر يقع على عاتق أولياء الأمور الذين يصمون الآذان عن صرخات العلماء الذين يحذرون وينددون بهذه اللا مبالاة، وهذا الصمم والذي سيؤدي في نهاية الأمر إلى آلام مبرحة تصيب ضمير المجتمعات البشرية، وتدمي قلوبها، ولكن لن يفيد الصراخ بعد فوات الأوان، وبعد أن تذهب الإنسانية إلى لظى الجحيم العصري، لن يفيد الندم ولن تشفع العلاجات، لأنها ستكون متأخرة عن أوانها، ومتخلفة عن دروس العلاج.
الدراسات التي تصدر عن علماء وباحثين، ليست للتسلية، وإنما هي إشارات تحذير، وإنذارات لمن يهمه الأمر.
وعلى أصحاب القلوب الرحيمة من الآباء والأمهات أن ينتبهوا، ويلتفتوا إلى فلذات الأكباد وألا يدعوهم فريسة لتكنولوجيا الشطط، وفريسة لأنياب الحداثة المغلوطة والتي جعلت من الإنسان أدوات تجريب، وتخريب، وتهريب الحياة إلى مناطق أبعد عن الصحة، وأقرب إلى المرض.
العالم يتطور، والحياة تزدهر بما يقدمه العقل المخلص من أدوات الفرح والسعادة، وعلى الإنسان أن ينتقي أدوات فرحه ليتقي الأحزان والفقدان.