من يقصد تلك المدن التي حكمت يوماً بالحديد والنار، ورآها من قبل ومن بعد، وما توالى عليها من حكام أنجزوا لأنفسهم أصناماً، ونسوا غيرها من المشاريع الوطنية، مدن كان نصف سكانها مخبرين، والنصف الآخر مذنبين، يشعر زائرها اليوم بظلال ذلك الخوف التي تمشي في طرقاتها، وأنّات ألم ووجع تنبعث من أركانها، قاسى منها أناس بريئون، ضحكتها مهما كانت منطلقة، فهي كتومة على الفرح المطلق، وشيء من العبوس يبدو على مُحياها، رغم جماليات المكان، وروائح التاريخ، هي مدن تتشابه وإن تنوعت الجغرافيا، مدن مثل برلين الشرقية، مدن في أوروبا الشرقية، ومدن في منظومة الجمهوريات السوفييتية المسلمة، والتي عرفت تاريخياً ببلاد ما وراء النهر أو بلدان آسيا الوسطى.
مدن عواصم.. مثل؛ دوشنبيه في طاجيكستان، وبيشكك في قيرغيزستان، وطشقند في أوزبكستان، وعشق آباد في تركمانستان، والآستانه في كازاخستان، كل تلك المدن لها تجربة سابقة وقاسية من النظام الاشتراكي، وما يتبعه من التزامات صارمة، وحياة لا تخلو من شظف العيش، والاكتفاء بما وجد، والنوم مبكراً، ولا ثمة تطلعات نحو أفق جديد أو مستقبل يمكن أن يشيده الآخر لنفسه وأولاده، إلا إذا ما دخل في معترك سياسة الحزب الواحد، ودار في فلك الحكومة، وحرم من حريته الشخصية، وحرية التفكير، وأصبح رهين المحسوبية، والتفكير المحدود والموجّه.
هي من المدن التي كانت تحب بحماسة منقطعة النظير، ومثل تلك المدن سرعان ما تنسى وتهجر وتتخلى عن ذلك الحب، لأنه حب غير حقيقي، ولا نابع من القلب، هو حب ربما أجبرت عليه أو خافت منه أو أرادت أن تتحايل عليه، في تلك المدن المتعددة في أوروبا الشرقية، وألمانيا الشرقية، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي الإسلامية، كانت تماثيل الزعماء فيها تملأ الساحات والميادين وصورهم المجسمة مرسومة على جدران العمارات بطولها، ولا تستطيع أن تلتفت لا يمنة ولا يسرة إلا وستجد الزعيم يرمقك بنظرة من عينه المخادعة، فلا تعرف منها الحب أو الكراهية أو استجداء طلب للتقديس، وعبادة «الصنم» الذي صنعه الخوف.
ولعل من الشواهد الواضحة والحيّة في نفوس الكازاخ لتلك المرحلة السوداء، لما تلقوه من القمع السياسي، والذي يمثله النصب الفضي المسمى «قوس الحزن» الذي بني تخليداً لذكرى النساء البائسات في معسكرات التعذيب «كولاغ»، وخاصة المعسكر الرهيب «الجير Alzhair» الذي قتلت فيه ثمانية الآف امرأة، في الحقبة الستالينية، وكانت التهمة الجاهزة لتلك النساء أنهن زوجات رجال خونة، كانت تنتزع منهن الاعترافات بأن رجالهن على علاقة بالتخابر مع جهات أجنبية، وبالتالي خالفوا تعاليم الحزب، وخانوا الوطن، وأهانوا الأيديولوجيا، كنّ نساء متعلمات وذوات مهن رفيعة في المجتمع، لكن ذلك لم يشفع لهن أن يسمنَ سوء العذاب والإذلال الإنساني، وخلال تلك السنوات العصيبة كانت النساء تبني «بركساً» أشبه بغرف الجيش في المعسكرات من الطين والقش، وتزدحم الأجساد فيه، في منطقة كانت تصل درجة الحرارة لثلاثين تحت الصفر شتاء، وصيفاً أربعين فوق الصفر، ولا يقدم لهن من الأكل إلا الحساء والبطاطا، ويُسقنَ منذ الصباح حتى المساء في أعمال أشبه بعمال السخرة، ومساء يستسلمن للحراس، وإذا ما أنجبت الواحدة منهن طفلاً، يبقى معها ثلاثة أشهر فقط، بعدها يفصل عنها نهائياً في بيوت الأيتام، ولا يسمح لها بالاتصال به، لذا الكثيرون منهم خرجوا للحياة لا يعرفون أهلهم بين أم أكلتها الحياة، وأب مطموس الوجه والهوية.
بعد تلك الزيارة إلى ذلك المعسكر القميء  «الأجير»، ستخرج وأنت تحمل في رأسك تلك المأساة الإنسانية، وكيف يمكن أن يفحش الإنسان ويستذئب حد التحلل من إنسانيته وشرفه وكرامته، تلك قصة من قصص تكررت في بلدان ما وراء النهر عبر العصور ما بين النار والرماد.