المكسيك.. هي رحلة وحلم قديم ظل يكبر معي ومع «سهيلة» بين الوعد والتمني والتعذر والأمنيات، لكنني لم أكن أعتقد أنها بلد لا يقبل القسمة على اثنين حتى حلقت بي الطائرة وحدي على مسافة ثلاثين ساعة مما تعدّون، تاركاً إياها تدعو لي بالسلامة والعود الأحمد، وبداية الحكاية.. لو أني سحبت سهيلة معي في كل سفراتي، لكان الآن نصف العالم لم أره بعد، ولكنت ذهبت إلى لندن وباريس ألف مرة معها، من دون أن تمل هي، لكن لأن أعذاري على طرف لساني، ولا أحتاج أن أستلف لسهيلة الأعذار، فحقيبتي ملأى، يكفيني أن أستل عذراً أقبح من ذنب، فتجده سهيلة بكبر الرحى على قلبها، وتقول مجبرة: روح.. بس لا تطول! لكن لدى سهيلة أمنية أن ترى أميركا اللاتينية، لاعتبارات لغوية وحضارية تعشقها، ولإجادتها الإسبانية باللهجة الكتالونية والهسبانية، بطلاقة تحسد عليها، لذا كنت أمنّيها، وأمنّي النفس أولاً بالسفر لتلك البلدان المتوهجة لوحدي أو مع صديق يشاركني يقظة الصباح، ومتعة سهر الليل، والغوص في تفاصيل حياة تلك الشعوب وثقافاتها المتنوعة، وبين أمنيتها وشروطي، تعطلت تلك المشاوير لأميركا اللاتينية، فقد كنت بطبيعتي، خاصة بعد الأربعين «النووية» أستصعب دائماً الذهاب إلى المحيط البعيد، سواء شرقاً أو غرباً، إذا لم نكن مجموعة مختارة تجعل من المسافات البعيدة، قاب قوسين أو أدنى، ومرة عزمت أن أذهب إلى المكسيك في صيف من تلك الصيوف، فقالت سهيلة: «رجلي على رجلك.. من زمان توعدني.. ولا أشوف إلا السيرات البايرة، واللي عليها تخفيضات هائلة، واللي لها إعلانات في الصحف المجانية والمبوبة»!
لكن أخباراً غير سارّة وصلت من المكسيك ذاك الصيف، مفادها تفشي إنفلونزا الخنازير «swine flu» فزادت على بعد المسافة، ومشقة السفر، والزحمة غير العادية في «مكسيكو سيتي» سبباً آخر، وبالرغم أنني وعدت «الغالية»، وحين أقول الغالية تنخفض مصاريفها إلى الربع، وطلباتها إلى النصف، فالكلمة الجميلة والرطبة عند المرأة لها قيمتها المعنوية والمادية، أن أسفّرها إلى المكسيك، بعد ما أحرجتني، وأحرجت اختياراتي، وكادت تقول إنني أسترخص الأشياء، لولا طول العشرة، وكم من عقد ألماس أهديته لها قبل أن تلد الأولاد، وأنا اليوم عند كلمتي أكثر، وعند وعدي ملتزمٌ، وليس مثلما تدعي أنني كثيراً ما أخلف وعودي لها، وأن كلام الليل المعسول، الصافي، لا يصبح عليه النهار المثقل بالتعب والأعباء، و«المفاتن» على الصغيرة والكبيرة، لكنها منذ سمعت الأخبار، والمعاطس، اقشعر جنبها، وتراجعت وقالت: «أصلاً أنا أمبونّي من زمان ما أحب أسافر بعيد»!
فلَبَدَتْ، وضحكت في داخلي، لأني كنت أرى الروع والخوف في عينيها، وربما من حسنات ما تتناقله وسائل الإعلام من مبالغة، وتهويل، وتضارب لظهور أي عوارض مرض جديد، معتمدة على حكايات الناس الشعبيين في المسألة، ومخاوفهم غير المبررة، مهملة رأي أصحاب الاختصاص، أنها خسّرت سهيلة حتى الآن بلداناً كثيرة، بسبب جنون البقر مرة، ومرة بسبب إنفلونزا الطيور، ومرة بسبب الحمى المالطية، ومرة بسبب الحمى القُلاعية، أما حمى تصدع الوادي، فهي احتياط عندي لأي بلد، لا أودها أن ترافقني إليه وهي من النوع «الفروق» خاصة إذا كان فيها «معاطس» وحمى، و«لواع» وعوارض الوحم و«الحمال»، وهي أمور قالت منها التوبة من زمان.
وقبل شهرين وعدتها بزيارة إسبانيا والمكسيك وكوبا، فكانت فرحتها لا تقاس، ورضاها عني لا يُحد طوال الشهرين المنصرمين، وكنت جاداً هذه المرة، وبصدق، لكن حظها وتضحياتها الأسرية منعتها من تحقيق تلك الأمنية، وجعلتني أسافر لوحدي، وشجعتني على ذلك، لذا بقيت في نفسي أكثر من نفسها، ولا أعرف كيف يمكنني أن أعوضها برحلة لا تنسى، فهل تكون تلك الرحلة البحرية التي تسمى «رحلة شهر العسل الثاني»!